فأجاب رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين . أما مسألة تغير الماء اليسير أو الكثير بالطاهرات : كالأشنان والصابون والسدر والخطمي والتراب والعجين وغير ذلك مما قد يغير الماء مثل الإناء إذا كان فيه أثر سدر أو خطمي ووضع فيه ماء فتغير به مع بقاء اسم الماء : فهذا فيه قولان معروفان للعلماء .
أحدهما : أنه لا يجوز التطهير به كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه التي اختارها الخرقي والقاضي وأكثر متأخري أصحابه ; لأن هذا ليس بماء مطلق فلا يدخل في قوله تعالى { فلم تجدوا ماء } . ثم إن أصحاب هذا القول استثنوا من هذا أنواعا بعضها متفق عليه بينهم وبعضها مختلف فيه فما كان من التغير حاصلا بأصل الخلقة أو بما يشق صون الماء عنه : فهو طهور [ ص: 25 ] باتفاقهم . وما تغير بالأدهان والكافور ونحو ذلك : ففيه قولان معروفان في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما . وما كان تغيره يسيرا : فهل يعفى عنه أو لا يعفى عنه أو يفرق بين الرائحة وغيرها ؟ على ثلاثة أوجه إلى غير ذلك من المسائل .
قيل : تناول الاسم لمسماه لا فرق فيه بين التغير الأصلي والطارئ ولا بين التغير الذي يمكن الاحتراز منه والذي لا يمكن الاحتراز منه فإن الفرق بين هذا وهذا إنما هو من جهة القياس لحاجة الناس إلى [ ص: 26 ] استعمال هذا المتغير دون هذا فأما من جهة اللغة وعموم الاسم وخصوصه فلا فرق بين هذا وهذا ؟ ولهذا لو وكله في شراء ماء أو حلف لا يشرب ماء أو غير ذلك : لم يفرق بين هذا وهذا ; بل إن دخل هذا دخل هذا وإن خرج هذا خرج هذا فلما حصل الاتفاق على دخول المتغير تغيرا أصليا أو حادثا بما يشق صونه عنه : علم أن هذا النوع داخل في عموم الآية . وقد ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر : { nindex.php?page=hadith&LINKID=57772هو الطهور ماؤه الحل ميتته } والبحر متغير الطعم تغيرا شديدا لشدة ملوحته . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن ماءه طهور - مع هذا التغير - كان ما هو أخف ملوحة منه أولى أن يكون طهورا وإن كان الملح وضع فيه قصدا ; إذ لا فرق بينهما في الاسم من جهة اللغة . وبهذا يظهر ضعف حجة المانعين ; فإنه لو استقى ماء أو وكله في شراء ماء لم يتناول ذلك ماء البحر ومع هذا فهو داخل في عموم الآية فكذلك ما كان مثله في الصفة .
[ ص: 27 ] وقول القائل : إن هذا تغير في محل الاستعمال فلا يؤثر : تفريق بوصف غير مؤثر لا في اللغة ولا في الشرع ; فإن المتغير إن كان يسمى ماء مطلقا وهو على البدن فيسمى ماء مطلقا وهو في الإناء . وإن لم يسم ماء مطلقا في أحدهما لم يسم مطلقا في الموضع الآخر ; فإنه من المعلوم أن أهل اللغة لا يفرقون في التسمية بين محل ومحل .
وأما الشرع : فإن هذا فرق لم يدل عليه دليل شرعي فلا يلتفت إليه . والقياس عليه إذا جمع أو فرق : أن يبين أن ما جعله مناط الحكم جمعا أو فرقا مما دل عليه الشرع وإلا فمن علق الأحكام بأوصاف جمعا وفرقا بغير دليل شرعي : كان واضعا لشرع من تلقاء نفسه شارعا في الدين ما لم يأذن به الله .
ولهذا كان على القائس أن يبين تأثير الوصف المشترك الذي جعله مناط الحكم بطريق من الطرق الدالة على كون الوصف المشترك هو علة الحكم . وكذلك في الوصف الذي فرق فيه بين الصورتين عليه أن يبين تأثيره بطريق من الطرق الشرعية .
فإن قيل : ذلك التغير كان يسيرا ؟ قيل : وهذا أيضا دليل في المسألة ; فإنه إن سوى بين التغير اليسير والكثير مطلقا كان مخالفا للنص ; وإن فرق بينهما لم يكن للفرق بينهما حد منضبط لا بلغة ولا شرع ولا عقل ولا عرف ومن فرق بين الحلال والحرام بفرق غير معلوم لم يكن قوله صحيحا .
وأيضا : فإن المانعين مضطربون اضطرابا يدل على فساد أصل قولهم منهم من يفرق بين الكافور والدهن وغيره ويقول : إن هذا التغير عن مجاورة لا عن مخالطة . ومنهم من يقول : بل نحن نجد في الماء أثر ذلك . ومنهم من يفرق بين الورق الربيعي والخريفي . ومنهم من يسوي بينهما ومنهم من يسوي بين الملحين : الجبلي والمائي . ومنهم من يفرق بينهما .
وليس على شيء من هذه الأقوال دليل يعتمد عليه لا من نص ولا قياس ولا إجماع ; إذ لم يكن الأصل الذي تفرعت عليه مأخوذا من جهة الشرع . وقد قال الله سبحانه وتعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وهذا بخلاف ما جاء من عند [ ص: 29 ] الله فإنه محفوظ كما قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } فدل ذلك على ضعف هذا القول .
وأيضا . فإن القول بالجواز موافق للعموم اللفظي والمعنوي ; مدلول عليه بالظواهر والمعاني ; فإن تناول اسم الماء لمواقع الإجماع كتناوله لموارد النزاع في اللغة وصفات هذا كصفات هذا في الجنس فتجب التسوية بين المتماثلين .
وأيضا . فإنه على قول المانعين : يلزم مخالفة الأصل وترك العمل بالدليل الشرعي لمعارض راجح ; إذ كان يقتضي القياس عندهم : أنه لا يجوز استعمال شيء من المتغيرات في طهارتي الحدث والخبث لكن استثني المتغير بأصل الخلقة وبما يشق صون الماء عنه للحرج والمشقة فكان هذا موضع استحسان ترك له القياس وتعارض الأدلة على خلاف الأصل . وعلى القول الأول : يكون رخصة ثابتة على وفق القياس من غير تعارض بين أدلة الشرع ; فيكون هذا أقوى .
وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة : أحدها : لا ينجس . وهو قول أهل المدينة ورواية المدنيين عن مالك وكثير من أهل الحديث وإحدى الروايات عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ونصرها Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل في المفردات ; Multitarajem.php?tid=12628,12629,12630,12631وابن البناء وغيرهما .
والثاني : ينجس قليل الماء بقليل النجاسة . وهي رواية البصريين عن مالك .
والثالث : وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى - اختارها طائفة من أصحابه - الفرق بين القلتين وغيرهما . فمالك لا يحد الكثير بالقلتين والشافعي وأحمد يحدان الكثير بالقلتين .
والرابع : الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرهما فالأول ينجس [ ص: 31 ] منه ما أمكن نزحه دون ما لم يمكن نزحه بخلاف الثاني ; فإنه لا ينجس القلتين فصاعدا . وهذا أشهر الروايات عن أحمد واختيار أكثر أصحابه .
والخامس : أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان قليلا أو كثيرا ; وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه لكن ما لم يصل إليه لا ينجسه .
ثم حدوا ما لا يصل إليه : بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر .
ثم تنازعوا : هل يحد بحركة المتوضئ أو المغتسل ؟ وقدر ذلك nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن بمسجده فوجدوه عشرة أذرع في عشرة أذرع .
والسادس : قول أهل الظاهر الذين ينجسون ما بال فيه البائل دون ما ألقي فيه البول ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير .
[ ص: 32 ] وأصل هذه المسألة من جهة المعنى : أن اختلاط الخبيث وهو النجاسة بالماء : هل يوجب تحريم الجميع أم يقال : بل قد استحال في الماء فلم يبق له حكم ؟ فالمنجسون ذهبوا إلى القول الأول ; ثم من استثنى الكثير قال : هذا يشق الاحتراز من وقوع النجاسة فيه فجعلوا ذلك موضع استحسان كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد .
وأما أصحاب أبي حنيفة فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها وقدروه بالحركة أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق .
والصواب : هو القول الأول وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر سواء كان قليلا أو كثيرا وكذلك في المائعات كلها وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث والخبيث متميز عن الطيب بصفاته فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث : وجب دخوله في الحلال دون الحرام .
وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله لأن جرم النجاسة باق ففي استعماله استعمالها بخلاف ما إذا استحالت النجاسة فإن الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة .
وأيضا فيدل نهيه عن البول في الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير فيقال لصاحب القلتين : أتجوز بوله فيما فوق القلتين ؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص ; وإن حرمته فقد نقضت دليلك .
وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن : أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة ؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص ; فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير وإلا نقضت قولك .
وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع : إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق أتسوغ لأهل القرية البول فيه ؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص ; وإلا نقضت قولك فإذا كان النص [ ص: 35 ] بل والإجماع دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول ; بل تقدير الماء وغير ذلك فيما يشترك فيه القليل والكثير : كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهي فلم يجز تعليل النهي بالنجاسة ولا يجوز أن يقال : إنه صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن البول فيه لأن البول ينجسه ; فإن هذا خلاف النص والإجماع .
وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول فقوله ظاهر الفساد ; فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول ; إذ الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه .