فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أما طهارة جلود الميتة بالدباغ ففيها قولان مشهوران للعلماء في الجملة : أحدهما : أنها تطهر بالدباغ . وهو قول أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين .
[ ص: 91 ] والثاني : لا تطهر . وهو المشهور في مذهب مالك ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات لأن الماء لا ينجس بذلك وهو أشهر الروايتين عن أحمد أيضا اختارها أكثر أصحابه لكن الرواية الأولى هي آخر الروايتين عنه كما نقله الترمذي عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه أنه كان يذهب إلى حديث ابن عكيم ثم ترك ذلك بآخرة . وحجة هذا القول شيئان أحدهما : أنهم قالوا : هي من الميتة ولم يصح في الدباغ شيء ولهذا لم يرو البخاري ذكر الدباغ في حديث ميمونة من قول النبي رضي الله عنهم أجمعين وطعن هؤلاء فيما رواه مسلم وغيره إذ كانوا أئمة لهم في الحديث اجتهاد . وقالوا : روى ابن عيينة الدباغ عن الزهري والزهري كان يجوز استعمال جلود الميتة بلا دباغ وذلك يبين أنه ليس في روايته ذكر الدباغ وتكلموا في ابن وعلة .
فهذا الحديث يدل على أن التحريم لم يتناول الجلد وإنما ذكر الدباغ لإبقاء الجلد وحفظه لا لكونه شرطا في الحل . وإذا كان كذلك فتكون الرخصة لجهينة في هذا والنسخ عن هذا فإن الله تعالى ذكر تحريم الميتة في سورتين مكيتين : الأنعام والنحل . ثم في سورتين مدنيتين : البقرة والمائدة والمائدة من آخر القرآن نزولا كما روي { nindex.php?page=hadith&LINKID=15098المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها } وقد ذكر الله فيها من التحريم ما لم يذكره في غيرها وحرم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 95 ] أشياء مثل : أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير . وإذا كان التحريم زاد بعد ذلك على ما في السورة المكية التي استندت إليها الرخصة المطلقة : فيمكن أن يكون تحريم الانتفاع بالعصب والإهاب قبل الدباغ ثبت بالنصوص المتأخرة وأما بعد الدباغ فلم يحرم ذلك قط بل بين أن دباغه طهوره وذكاته وهذا يبين أنه لا يباح بدون الدباغ .
وعلى هذا القول فللناس فيما يطهره الدباغ أقوال : قيل : إنه يطهر كل شيء حتى الحمير . كما هو قول أبي يوسف وداود .
وقيل : يطهر كل شيء سوى الحمير . كما هو قول أبي حنيفة .
وقيل : يطهر كل شيء إلا الكلب والحمير . كما هو قول الشافعي وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ والقول الآخر في مذهبه - وهو قول طوائف من فقهاء الحديث - أنه إنما يطهر ما يباح بالذكاة فلا يطهر جلود السباع .
ومأخذ التردد : أن الدباغ هل هو كالحياة فيطهر ما كان طاهرا . في الحياة أو هو كالذكاة فيطهر ما طهر بالذكاة ؟ والثاني أرجح .