فأجاب : الحمد لله رب العالمين الأفضل أن يستاك باليسرى ; نص عليه الإمام أحمد في رواية ابن منصور الكوسج ذكره عنه في مسائله وما علمنا أحدا من الأئمة خالف في ذلك . وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى فهو كالاستنثار والامتخاط ; ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى وذلك باليسرى كما أن إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى .
وتقدم اليسرى في ضد ذلك كدخول الخلاء وخلع النعل والخروج من المسجد والذي يختص بأحدهما : إن كان من باب الكرامة كان باليمين كالأكل والشرب والمصافحة ; ومناولة الكتب وتناولها ونحو ذلك . وإن كان ضد ذلك كان باليسرى كالاستجمار ومس الذكر والاستنثار والامتخاط ونحو ذلك .
فإن قيل : السواك عبادة مقصودة تشرع عند القيام إلى الصلاة وإن لم يكن هناك وسخ وما كان عبادة مقصودة كان باليمين .
قيل : كل من المقدمتين ممنوع ; فإن الاستياك إنما شرع لإزالة ما في داخل الفم وهذه العلة متفق عليها بين العلماء ; ولهذا شرع عند الأسباب المغيرة له كالنوم والإغماء وعند العبادة التي يشرع لها تطهير كالصلاة والقراءة ولما كان الفم في مظنة التغير شرع عند [ ص: 110 ] القيام إلى الصلاة كما شرع غسل اليد للمتوضئ قبل وضوئه ; لأنها آلة لصب الماء . وقد تنازع العلماء فيما إذا تحقق نظافتها : هل يستحب غسلها ؟ على قولين مشهورين . ومن استحب ذلك - كالمعروف في مذهب الشافعي وأحمد - يستحب على النادر بل الغالب وإزالة الشك باليقين .
وقد يقال مثل ذلك في السواك إذا قيل باستحبابه مع نظافة الفم عند القيام إلى الصلاة مع أن غسل اليد قبل المضمضة المقصود بها النظافة فهذا توجيه المنع للمقدمة الأولى .
وأما الثانية : فإذا قدر أنه عبادة مقصودة فما الدليل على أن ذلك مستحب باليمنى ؟ وهذه مقدمة لا دليل عليها بل قد يقال : العبادات تفعل بما يناسبها ويقسم فيها ما يناسبها .
ثم قول القائل : إن ذلك عبادة مقصودة : إن أراد به أنه تعبد محض لا تعقل علته : فليس هذا بصواب لاتفاق المسلمين على أن السواك معقول ليس بمنزلة رمي الجمار . وإن أراد أنها مقصودة أنه لا بد فيها من النية كالطهارة وأنها مشروعة مع تيقن النظافة ونحو ذلك : فهذا الوصف إذا سلم لم يكن في ذلك ما يوجب كونها باليمنى إذ لا دليل على ذلك ; فإن كونها منوية أو مشروعة مع تيقن النظافة [ ص: 111 ] لا ينافي أن يكون من باب الكرامة تختص بها اليمنى بل يمكن ذلك فيها مع هذا الوصف ألا ترى أن الطواف بالبيت من أجل العبادات المقصودة ؟ ويستحب القرب فيه من البيت ; ومع هذا فالجانب الأيسر فيه أقرب إلى البيت لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل لليمين ولم ينقل إذا كانت مقصودة فينبغي تقديم اليمنى فيها إلى البيت ; لأن إكرام اليمين في ذلك أن تكون هي الخارجة .
وكذلك الاستنثار جعله باليسرى إكرام لليمين وصيانة لها وكذلك السواك . ثم إذا قيل : هو في الأصل من باب إزالة الأذى وإذا قيل : إنه مشروع فيه العدول عن اليمنى إلى اليسرى أعظم في إكرام اليمين بدون ذلك : لم يمنع أن يكون إزالة الأذى فيه ثابتة مقصودة كالاستجمار بالثلاث عند من يوجبه كالشافعي وأحمد فإنهم يوجبون الحجر الثالث مع حصول الإنقاء بما دونه .
وكذلك التثليث في الوضوء مستحب وإن تنظف العضو بما دونه مع أنه لا شك أن إزالة النجاسة مقصودة في الاستنجاء بالماء والحجر . [ ص: 112 ] فكذلك إماطة الأذى من الفم مقصودة بالسواك قطعا وإن شرع مع عدمه تحقيقا لحصول المقصود ; وذلك لا يمنع من أن يجعل باليسرى كما أن الحجر الثالث في الاستجمار يكون باليسرى والمرة السابعة في ولوغ الكلب تكون باليسرى ونحو ذلك مما كان المقصود به في الأصل إزالة الأذى وإن قيل : يشرع مع عدمه تكميلا للمقصود به وإزالة للشك باليقين إلحاقا للنادر بالغالب ; ولأن الحكمة في ذلك قد تكون خفية فعلق الحكم فيها بالمظنة إذ زوال الأذى بالكلية قد يظنه الظان من غير تيقن ويعسر اليقين في ذلك فأقيمت المظنة فيه مقام الحكمة فجعل مشروعا للقيام إلى الصلاة مع عدم النظر إلى التغير وعدمه ; لأن العبادة حصول التغير .
فهذا إذا قيل به فهو من جنس أقوال العلماء وذلك لا يخرج جنس هذا الفعل أن يكون من باب إزالة الأذى وإن كان عبادة مقصودة تشرع فيها النية وحينئذ يكون باليسرى كالاستنثار والاستنجاء بالأحجار ومباشرة محل الولوغ بالدلك ونحوه بخلاف صب الماء فإنه من باب الكرامة ولهذا كان المتوضئ يستنشق باليمنى ويستنثر باليسرى والمستنجي يصب الماء باليمين ويدلك باليسرى .
وكذلك المغتسل والمتوضئ من الماء كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدخل يده اليمنى في الإناء فيصب بها على اليسرى مع أن [ ص: 113 ] مباشرة العورة في الغسل باليسرى وهكذا غاسل مورد النجاسة يصب باليمنى وإذا احتاج إلى مباشرة المحل باشره باليسرى وشواهد الشريعة وأصولها على ذلك متظاهرة . والله أعلم . ؟