وسئل أيضا رحمه الله عن رجل قد أصابته جنابة وهو في بستان ولم يكن عنده إلا ماء بارد ويخاف الضرر على نفسه باستعماله والحمام بعيد منه ; بحيث إذا وصل إلى الحمام واغتسل خرج الوقت . فهل إذا تيمم للجنابة وتوضأ وصلى في الوقت يلزمه إعادة ؟ وهل يأثم بذلك ؟ أو يأثم إذا تيمم ؟ . وهل التيمم يقوم مقام الماء ; فيجوز له التيمم لنافلة ويصلي بها فريضة أو يصلي فريضتين في وقتين بتيمم واحد ؟ . [ ص: 428 ]
فأجاب : - الحمد لله رب العالمين . يجب على كل مسلم أن يصلي الصلوات الخمس في مواقيتها وليس لأحد قط أن يؤخر الصلاة عن وقتها لا لعذر ولا لغير عذر . لكن العذر يبيح له شيئين : يبيح له ترك ما يعجز عنه ويبيح له الجمع بين الصلاتين .
فالمريض يصلي على حسب حاله . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : { nindex.php?page=hadith&LINKID=20742صل قائما . فإن لم تستطع فقاعدا . فإن لم تستطع فعلى جنب } . وسقط عنه ما يعجز عنه من قيام وقعود أو تكميل الركوع والسجود . ويفعل ما يقدر عليه . فإن قدر على الطهارة بالماء تطهر وإذا عجز عن ذلك لعدم الماء أو خوف الضرر باستعماله تيمم . وصلى ولا إعادة عليه لما يتركه من القيام والقعود باتفاق العلماء وكذلك لا إعادة إذا صلى بالتيمم باتفاقهم ولو كان في بدنه نجاسة [ ص: 429 ] لا يمكنه إزالتها صلى بها ولا إعادة عليه أيضا عند عامة العلماء .
ولو لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلي عريانا وقيل يصلي ويعيد وقيل يصلي في الثوب النجس ولا يعيد وهو أصح أقوال العلماء .
فهو مأمور بها أن يصليها في وقتها وأما ما خرج وقته من الصلاة فلم يأمره بإعادته مع كونه قد ترك بعض واجباته لأنه لم يكن يعرف وجوب ذلك عليه . وكذلك لم يأمر nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يقضي ما تركه من الصلاة : لأجل الجنابة . لأنه لم يكن يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم . وكذلك المستحاضة قالت له : إني أستحاض حيضة شديدة منكرة تمنعني الصوم والصلاة فأمرها أن تتوضأ لكل صلاة ولم يأمرها بقضاء ما تركته . وكذلك الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لأحدهم الحبال البيض من الحبال السود أكلوا بعد طلوع الفجر ولم يأمرهم بالإعادة فهؤلاء كانوا جهالا بالوجوب فلم يأمرهم بقضاء ما تركوه في حال [ ص: 431 ] الجهل كما لا يؤمر الكافر بقضاء ما تركه في حال كفره وجاهليته ; بخلاف من كان قد علم الوجوب وترك الواجب نسيانا . فهذا أمره به إذا ذكره . وأمر النائم من حين يستيقظ فإنه حين النوم لم يكن مأمورا بالصلاة فلهذا كان النائم إذا استيقظ قرب طلوع الشمس يتوضأ ويغتسل وإن طلعت الشمس عند جمهور العلماء : كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك بخلاف من كان مستيقظا والوقت واسع مثل الذي يكون نائما في بستان أو قرية والماء بارد يضره والحمام بعيد منه إن خرج إليه ذهب الوقت فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة بعد خروج الوقت . وكذلك لو كان في المصر وقد تعذر عليه دخول الحمام : إما لكونه لم يفتح أو لبعدها عنه أو لكونه ليس معه ما يعطي الحمامي أجرته ونحو ذلك فإنه يصلي بالتيمم لأن الصلاة بالتيمم فرض إذا عجز عن الماء لعدم أو لخوف الضرر باستعماله ولا إعادة على أحد من هؤلاء ففي كثير من الضرر لا إعادة عليه باتفاق المسلمين : كالمريض والمسافر . وبعض الضرر تنازع فيه العلماء . والصحيح أنه لا إعادة على أحد صلى بحسب استطاعته كما أمر .
[ ص: 432 ] فمن صور النزاع من عدم الماء في الحضر ومن تيمم لخشية البرد . وكذلك سائر من ترك واجبا لعذر نادر غير متصل فإنه تجب عليه الإعادة عند الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ولا تجب عليه الإعادة عند مالك . وأكثر العلماء وأحمد في إحدى الروايتين عنه .
والذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز تأخير الصلاة بحال وهو قول مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه لكن يجوز الجمع بين الصلاتين لعذر عند أكثر العلماء . كما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة والجمع في هذين الموضعين ثابت بالسنة المتواترة واتفاق العلماء . وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجمع في السفر إذا جد به السير وأنه صلى بالمدينة ثمانيا جمعا الظهر والعصر وسبعا المغرب والعشاء أراد بذلك أن لا يحرج أمته . لقوله تعالى . { وما جعل عليكم في الدين من حرج } .
[ ص: 433 ] فلهذا كان مذهب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره من العلماء كطائفة من أصحاب مالك وغيره : أنه يجوز الجمع بين الصلاتين إذا كان عليه حرج في التفريق فيجمع بينهما المريض وهو مذهب مالك وطائفة من أصحاب الشافعي ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر عند الجمهور : كمالك والشافعي وأحمد . وقال أحمد : يجمع إذا كان له شغل . وقال nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى : إذا كان له عذر يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز الجمع .
فمذهب فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث : كمالك والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم يجوز الجمع بين الصلاتين في الجملة ولا يجوز التفويت بأن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار .
ومذهب طائفة من فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره أنه لا يجوز الجمع إلا بعرفة ومزدلفة . وكذلك إذا تعذر فعلها في الوقت أخرها عن الوقت وقول من أمر بالجمع بين الصلاتين من غير تفويت أرجح من قول من أمر بالتفويت ولم يأمر بالجمع ; فإن الكتاب والسنة يدلان على أن الله أمر بفعل الصلاة في وقتها وأمر بالمحافظة عليها . كما قال تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } هذه نزلت [ ص: 434 ] ناسخة لتأخير الصلاة يوم الخندق . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=20844صلوا الصلاة لوقتها } .
وقد دل الكتاب والسنة على أن المواقيت " خمسة " في حال الاختيار وهي : " ثلاثة " في حال العذر ففي حال العذر إذا جمع بين الصلاتين : بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فإنما صلى الصلاة في وقتها لم يصل واحدة بعد وقتها ; ولهذا لم يجب عليه عند أكثر العلماء أن ينوي الجمع ولا ينوي القصر . وهذا قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في نصوصه المعروفة . وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز .
ولهذا كان عند جمهور العلماء : كمالك والشافعي وأحمد إذا طهرت الحائض في آخر النهار صلت الظهر والعصر جميعا وإذا طهرت في آخر الليل صلت المغرب والعشاء جميعا كما نقل ذلك عن nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة وابن عباس ; لأن الوقت مشترك بين الصلاتين في حال العذر فإذا طهرت في آخر النهار فوقت الظهر باق فتصليها قبل العصر . وإذا طهرت في آخر الليل فوقت . المغرب باق في حال العذر ; فتصليها قبل العشاء .
ولهذا ذكر الله المواقيت تارة خمسا ويذكرها ثلاثا تارة [ ص: 435 ] كقوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } الآية . وهو وقت المغرب والعشاء . وكذلك قال الله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } . والدلوك هو الزوال وغسق الليل هو اجتماع ظلمة الليل وهذا يكون بعد مغيب الشفق . فأمر الله بالصلاة من الدلوك إلى الغسق فرض في ذلك الظهر والعصر والمغرب والعشاء ودل ذلك على أن هذا كله وقت الصلاة فمن الدلوك إلى المغرب وقت الصلاة ومن المغرب إلى غسق الليل وقت الصلاة . وقال : { وقرآن الفجر } لأن الفجر خصت بطول القراءة فيها ولهذا جعلت ركعتين في الحضر والسفر فلا تقصر ولا تجمع إلى غيرها فإنه عوض بطول القراءة فيها عن كثرة العدد .
فصل وأما التيمم لكل صلاة ولوقت كل صلاة ولا يصلي الفرض بالتيمم للنافلة ; لأن التيمم طهارة ضرورية والحكم المقدر بالضرورة مقدر بقدرها . فلا يتيمم قبل الوقت ولا يبقى بعده . وهو مبيح للصلاة لا رافع للحدث ; لأنه إذا قدر على استعمال الماء استعمله من غير تجدد حدث فعلم أن الحدث كان باقيا وإنما أبيح بالضرورة . [ ص: 436 ] فلا يستبيح إلا ما نواه . فهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد .
وقيل : بل التيمم يقوم مقام الماء مطلقا يستبيح به كما يستباح بالماء ويتيمم قبل الوقت كما يتوضأ قبل الوقت ويبقى بعد الوقت كما تبقى طهارة الماء بعده . وإذا تيمم لنافلة صلى به الفريضة كما أنه إذا توضأ لنافلة صلى به الفريضة . وهذا قول كثير من أهل العلم وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية . وقال أحمد : هذا هو القياس .
فمن قال إن التراب لا يطهر من الحدث فقد خالف الكتاب والسنة . وإذا كان مطهرا من الحدث امتنع أن يكون الحدث باقيا مع أن الله طهر المسلمين بالتيمم من الحدث فالتيمم رافع للحدث مطهر لصاحبه لكن رفع موقت إلى أن يقدر على استعمال الماء فإنه بدل عن الماء فهو مطهر ما دام الماء متعذرا كما أن الملتقط يملك اللقطة ما دام لم يأته صاحبها وكان ملك صاحبها ملكا موقتا إلى ظهور المالك فإنه [ ص: 438 ] كان بدلا عن المالك فإذا جاء صاحبها خرجت عن ملك الملتقط إلى ملك صاحبها . وما ثبت بنص أو إجماع لا يطلب له نظير يقاس به وإنما يطلب النظير لما لا نعلمه إلا بالقياس والاعتبار . فيحتاج أن نعتبره بنظير وأما ما شرعه الله ورسوله فعلينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نطلب لذلك نظيرا مع أن الاعتبار يوافق النص . كما قال أحمد القياس أن تجعل التراب كالماء .
وأصحاب القول الآخر احتجوا بآثار منقولة عن بعض الصحابة وهي ضعيفة لا تثبت . ولا حجة في شيء منها ولو ثبتت . وقول القائل : إنها طهارة ضرورية فتقدر بقدر الحاجة . قيل له : نعم والإنسان محتاج أن لا يزال على طهارة فيتطهر قبل الوقت ; فإنه محتاج إلى زيادة الثواب ; ولهذا يصلي النافلة بالتيمم باتفاق المسلمين وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تيمم لرد السلام في الحضر وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12801إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر } فدل على أن التيمم يكون مستحبا تارة وواجبا أخرى . أي يتيمم في وقت لا يكون التيمم واجبا عليه أن يتيمم وإن كان شرطا للصلاة والتيمم [ ص: 439 ] قبل الوقت مستحب كما أن الوضوء قبل الوقت مستحب .
وأصح أقوال العلماء أنه يتيمم لكل ما يخاف فوته كالجنازة وصلاة العيد وغيرهما مما يخاف فوته فإن الصلاة بالتيمم خير من تفويت الصلاة كما أن صلاة التطوع بالتيمم خير من تفويته ولهذا يتيمم للتطوع من كان له ورد في الليل يصليه وقد أصابته جنابة والماء بارد يضره فإذا تيمم وصلى التطوع وقرأ القرآن بالتيمم كان خيرا من تفويت ذلك .
فقول القائل : إنه حكم مقيد بالضرورة . فيقدر بقدرها . إن أراد به أن لا يفعل إلا عند تعذر الماء فهو مسلم . وإن أراد به أنه لا يجوز التيمم إلا إذا كان التيمم واجبا فقد غلط . فإن هذا خلاف السنة وخلاف إجماع المسلمين بل يتيمم للواجب ويتيمم للمستحب كصلاة التطوع وقراءة القرآن المستحبة ومس المصحف المستحب .
والله قد جعله طهورا للمسلمين عند عدم الماء فلا يجوز لأحد أن يضيق على المسلمين ما وسع الله عليهم وقد أراد رفع الحرج عن الأمة فليس لأحد أن يجعل فيه حرجا . كما فعله طائفة من الناس . أثبتوا فيه من الحرج ما هو معلوم .
ولهذا كان الصواب أنه يجوز التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين [ ص: 440 ] ولا يجب فيه ترتيب ; بل إذا مسح وجهه بباطن راحتيه أجزأ ذلك عن الوجه والراحتين ثم يمسح ظهور الكفين بعد ذلك فلا يحتاج أن يمسح راحتيه مرتين وعلى هذا دلت السنة . وبسط هذه المسائل في موضع آخر . والله أعلم .