وسئل عن رجل عنده ستون قنطار زيت بالدمشقي وقعت فيه فأرة في بئر واحدة فهل ينجس بذلك أم لا ؟ وهل يجوز بيعه أو استعماله أم لا ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب : الحمد لله . لا ينجس بذلك بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير لكن تلقى النجاسة وما حولها وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة [ ص: 525 ] من العلماء : كالزهري والبخاري صاحب الصحيح .
وقد ذكر ذلك رواية عن مالك وهو أيضا مذهب أبي حنيفة : فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة وفي إزالة النجاسة وهو رواية عن أحمد في الإزالة ; لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسا وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسا مع الكثرة .
وتنازعوا في القليل .
إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبيث إذا وقع في الطيب أفسده ومنهم من قال إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده كما لو انقلبت الخمرة خلا بغير قصد آدمي فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة لكن مذهبه في الماء معروف وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع . ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله .
[ ص: 527 ] واستدل بالحديث الذي رواه عن nindex.php?page=showalam&ids=16523عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68572أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : ألقوها وما حولها وكلوه } ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مائعا فلا تقربوه ; بل هذا باطل . فذكر البخاري رضي الله عنه هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روى في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه فإنه أجاب بالعموم في الجامد والذائب مستدلا بهذا الحديث بعينه لا سيما والسمن بالحجاز يكون ذائبا أكثر مما يكون جامدا ; بل قيل : إنه لا يكون بالحجاز جامدا بحال .
فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الجواب من غير تفصيل يوجب العموم إذ السؤال كالمعاد في الجواب فكأنه قال : إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم وترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال . هذا إذا كان السمن بالحجاز يكون جامدا ويكون ذائبا فأما إن كان وجود الجامد نادرا أو معدوما كان الحديث نصا في أن السمن الذائب إذا وقعت فيه الفأرة فإنها تلقى وما حولها ويؤكل . وبذلك أجاب الزهري فإن مذهبه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثيره إلا بالتغير وقد ذكر البخاري في أوائل الصحيح : التسوية بين الماء والمائعات .
وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة ودلائلها وكلام العلماء فيها [ ص: 528 ] في غير هذا الموضع . كيف وفي تنجيس مثل ذلك وتحريمه من فساد الأطعمة العظيمة وإتلاف الأموال العظيمة القدر ما لا تأتي بمثله الشريعة الجامعة للمحاسن كلها . والله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث تنزيها لنا عن المضار وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شيئا من الطيبات كما حرم على أهل الكتاب - بظلمهم - طيبات أحلت لهم . ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } والله سبحانه أعلم . والحمد لله وحده وصلاته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .