[ ص: 145 ] وسئل رحمه الله عن لبس الكوفية للنساء . ما حكمها إذا كانت بالدائر والفرق ؟ وفي لبسهن الفراجي ؟ وما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس ؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل زمان بحسبه ؟ .
فأجاب : الحمد لله . الكوفية التي بالفرق والدائر من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم . وهذا النوع قد يكون أول من فعله من النساء قصدت التشبه بالمردان كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرا واحدا مسدولا بين الكتفين وأن ترخي لها السوالف وأن تعتم ; لتشبه المردان في العمامة والعذار والشعر . ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا ; لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال .
فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى ; لأن ذلك كان عادة لأولئك وليس الضابط في ذلك لباسا معينا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده بحيث يقال : إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم .
ثم إن هذا ليس معينا للستر فلو لبست المرأة سراويل أو خفا واسعا صلبا كالموق وتدلى فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان هذا محصلا للمقصود بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم ; فإن هذا من لباس الرجال . وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك إلى دفع البرد لم تنه عن ذلك .
فلو قال قائل : لم يكن النساء يلبسن الفراء قلنا : فإن ذلك يتعلق بالحاجة فالبلاد الباردة يحتاج فيها إلى غلظ الكسوة وكونها مدفئة وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء . وهو ما يناسب ما يؤمر به الرجال وما تؤمر به النساء . فالنساء مأمورات [ ص: 149 ] بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور ; ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان ولا التلبية ولا الصعود إلى الصفا والمروة ولا التجرد في الإحرام . يتجرد الرجل .
فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه وأن لا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا الخف لكن لما كان محتاجا إلى ما يستر العورة ويمشي فيه رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارا أن يلبس سراويل وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين . وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد فإن عليه الفدية إذا لبسه ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح . ولأجل الفرق بين هذا وهذا .
وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس ; لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب فلا يشرع لها ضد ذلك لكن منعت أن تنتقب وأن تلبس القفازين ; لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو ولا حاجة بها إليه .
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل أو كيديه على قولين في مذهب أحمد وغيره . فمن جعل وجهها كرأسه أمرها إذا [ ص: 150 ] سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه . كما يجافى عن الرأس ما يظلل به .
ومن جعله كاليدين - وهو الصحيح - قال هي لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الانتقاب . كما نهيت عن القفازين ; وذلك كما نهى الرجل عن القميص والسراويل ونحو ذلك .
ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه . فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها . ومثل تغطية اليدين بالكمين وهي لم تنه عن ذلك .
وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم فقال : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد ; لأن البرد يهلكهم والحر يؤذيهم ; ولهذا قال بعض العرب : البرد بؤس والحر أذى ; ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخرى وقاية البرد فإن ذلك تقدم في أول السورة وهو ذكر في أثناء السورة ما أتم به النعمة وذكر [ ص: 152 ] في أول السورة أصول النعم ; ولهذا قال : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } .
والمقصود هنا : أن مقصود الثياب تشبه مقصود المساكن والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن فإذا اختلف لباس الرجال والنساء عما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب : كان للنساء وكان ضده للرجال .
وأصل هذا : أن تعلم أن الشارع له مقصودان : ( أحدهما الفرق بين الرجال والنساء .
و ( الثاني احتجاب النساء . فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف . وقد تقدم فساد ذلك بل أبلغ من ذلك أن المقصود باللباس إظهار الفرق بين المسلم والذمي ليترتب على كل منها من الأحكام الظاهرة ما يناسبه .
ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التميز به ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره . كما قال صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=598882عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم . وكفنوا فيه موتاكم } " لم يكن من [ ص: 153 ] السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض ولباس أهل الإسلام المصبوغ كالعسلي والأدكن ونحو ذلك بل الأمر بالعكس .
كذلك في الشعور وغيرها : فكيف الأمر في لباس الرجال والنساء ليس المقصود به مجرد الفرق بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار .
وكذلك أيضا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال ; بل الفرق أيضا مقصود حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك .
ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء : كانوا يسمون الرجال المغنين مخانيث . والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشاركة الرجال : ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل وتطلب أن تعلو على الرجال كما تعلو الرجال على النساء وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة .
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يتميز به الرجال عن النساء . وأن يكون لباس النساء فيه من [ ص: 155 ] الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك : ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء والنهي عن مثل هذا بتغير العادات وأما ما كان الفرق عائدا إلى نفس الستر فهذا يؤمر به النساء بما كان أستر ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نهي عنه من الوجهين والله أعلم .