[ ص: 129 ] سئل شيخ الإسلام رحمه الله - [ من ] أحد قضاة واسط أن يكتب له عقيدة تكون عمدة له وأهل بيته .
فأجابه : - بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ; وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له : إقرارا به وتوحيدا ; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا
ثم رسله صادقون مصدوقون ; بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون ولهذا قال سبحانه وتعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب
وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون ; فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم : من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل [ ص: 131 ] ثلث القرآن حيث يقول : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد }
[ ص: 141 ] فإن الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ; بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم . فهم وسط في ( باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية ; وأهل التمثيل المشبهة . وهم وسط في ( باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية
وفي باب ( وعيد الله بين المرجئة والوعيدية : من القدرية وغيرهم
وفي ( باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية
( وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج .
وليس معنى قوله : { وهو معكم } أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق ; بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء ; وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان ; وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته
[ ص: 144 ] ( فصل ) : ومن الإيمان بالله وكتبه : الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ; وأن الله تعالى تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ; ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه بل إذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف : لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا . وهو كلام الله ; حروفه ومعانيه ; ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف .
( فصل ) : وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله : الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى .
وأما الكفار : فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته ; فإنه لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها . وفي عرصة القيامة : الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء طوله شهر وعرضه شهر من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا
والصراط منصوب على متن جهنم - وهو الجسر الذي بين الجنة والنار - يمر الناس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد [ ص: 147 ] ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى في جهنم ; فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة . فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة
وأول من يستفتح باب الجنة : محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل الجنة من الأمم : أمته . وله - في القيامة - ثلاث شفاعات : - أما الشفاعة الأولى : فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه
وأما الشفاعة الثانية : فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة ; وهاتان الشفاعتان خاصتان له
وأما الشفاعة الثالثة : فيشفع فيمن استحق النار وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها ويخرج الله تعالى من النار أقواما بغير [ ص: 148 ] شفاعة بل بفضله ورحمته ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء ، والآثار من العلم المأثورة عن الأنبياء ، وفي العلم الموروث عن محمد من ذلك : ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده .
وهذا التقدير - التابع لعلمه سبحانه - يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء : وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا ; فيؤمر بأربع كلمات فيقال له : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ; ونحو ذلك فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكره اليوم قليل
وأما الدرجة الثانية : فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات . فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه
ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته . وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد
وهذه الدرجة من القدر : يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها .
وطاعة النبي في قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=30276لا تسبوا أصحابي . فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } . ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع : من فضائلهم ومراتبهم . فيفضلون من أنفق من قبل الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن { nindex.php?page=hadith&LINKID=595423الله قال لأهل [ ص: 153 ] بدر - وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر - : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة . ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة وكثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة . ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي - رضي الله عنهما بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدم قوم عثمان وسكتوا أو ربعوا بعلي وقدم قوم عليا وقوم توقفوا ; لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي " مسألة الخلافة "
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره ; بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنهم خير القرون " " وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم "
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه . فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين : إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور لهم ؟
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح
[ ص: 156 ] ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى
ومن أصول أهل السنة والجماعة : التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة .
وسموا أهل الجماعة ; لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة ; وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين ; " والإجماع " هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين . وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين ; والإجماع الذي ينضبط : هو ما كان عليه السلف الصالح ; إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة .
ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ويعتقدون معنى قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=1595أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا } . ويندبون إلى أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ; ويأمرون ببر الوالدين ، وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك ; وينهون عن الفخر [ ص: 159 ] والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ; ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها