وسئل عن رجل حنفي صلى في جماعة وأسر نيته ثم رفع يديه في كل تكبيرة ; فأنكر عليه فقيه الجماعة وقال له : هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه وأنت مذبذب لا بإمامك اقتديت ولا بمذهبك اهتديت . فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا ؟ .
فأجاب : الحمد لله . أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية فهو جاهل فإن الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب لا في مذهب أبي حنيفة ولا [ ص: 246 ] أحد من أئمة المسلمين ; بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية ومن جهر بالنية فهو مخطئ مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين ; بل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية لا سرا ولا جهرا كانت صحيحة ولا يجب التكلم بالنية .
لا عند أبي حنيفة ولا عند أحد من الأئمة حتى أن بعض متأخري أصحاب الشافعي لما ذكر وجها مخرجا : أن اللفظ بالنية لا واجب . غلطه بقية أصحابه وقالوا : إنما أوجب الشافعي النطق في أول الصلاة بالتكبير لا بالنية . وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يتنازعوا في أن النطق بالنية لا يجب وكذلك مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ; بل تنازع العلماء : هل يستحب التلفظ بالنية سرا ؟ على قولين : فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد : يستحب التلفظ بالنية لا الجهر بها ولا يجب التلفظ ولا الجهر .
وقال طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم : بل لا يستحب التلفظ بالنية لا سرا ولا جهرا كما لا يجب باتفاق الأئمة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية لا سرا ولا جهرا وهذا القول هو الصواب الذي جاءت به السنة .
[ ص: 247 ] وأما رفع اليدين في كل تكبيرة حتى في السجود فليست هي السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح .
وأما رفعهما عند الركوع والاعتدال من الركوع فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة . كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة والثوري وغيرهم . وأما أكثر فقهاء الأمصار وعلماء الآثار فإنهم عرفوا ذلك - لما أنه استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم - كالأوزاعي والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد وهو إحدى الروايتين عن مالك .
فإنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره { nindex.php?page=hadith&LINKID=4116أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل ذلك في السجود ولا كذلك بين السجودين } وثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : من حديث مالك بن الحويرث nindex.php?page=showalam&ids=101ووائل بن حجر nindex.php?page=showalam&ids=187وأبي حميد الساعدي : في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة وهو معروف من حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة وعدد كثير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة حصبه . وقال عقبة ابن عامر : له بكل إشارة عشر حسنات .
[ ص: 248 ] والكوفيون حجتهم أن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لم يكن يرفع يديه وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة ; فإن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة ; لكن قد حفظ الرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وابن مسعود لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا أول مرة ; لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع إلا أول مرة . والإنسان قد ينسى وقد يذهل وقد خفي على ابن مسعود التطبيق في الصلاة ; فكان يصلي وإذا ركع طبق بين يديه كما كانوا يفعلون أول الإسلام . ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك وأمروا بالركب وهذا لم يحفظه ابن مسعود ; فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة ; بل يجوز أن يصلي بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن .
وإذا كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد : ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك ولم يقدح ذلك في دينه . ولا عدالته بلا نزاع ; بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه .
[ ص: 249 ] فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا ; بل قد يكون كافرا ; فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل . بل غاية ما يقال : إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا لا بعينه من غير تعيين زيد ولا عمرو .
[ ص: 252 ] فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة .
ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين . كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة . وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما . فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم . فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم .
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله [ ص: 253 ] وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه وهما مع ذلك معظمان لإمامهما . لا يقال فيهما مذبذبان : بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها ولا يقال له مذبذب ; فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان . فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه اتبعه وليس هذا مذبذبا ; بل هذا مهتد زاده الله هدى . وقد قال تعالى : { وقل رب زدني علما } .
وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا . وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا . وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه .
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب . وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه ; فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب [ ص: 255 ] والسنة إلا ما شاء الله بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم .