فأجاب : الحمد لله رب العالمين . الأحاديث المعروفة في الصحاح والسنن والمساند تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاته قبل الخروج منها وكان يأمر أصحابه بذلك ويعلمهم ذلك ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعا لا في الفجر ولا في العصر ولا في غيرهما من الصلوات بل قد ثبت عنه أنه كان [ ص: 493 ] يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة .
والثاني : يقولها خمسا وعشرين ويضم إليها " لا إله إلا الله " وقد رواه مسلم .
والثالث : يقول الثلاثة ثلاثا وثلاثين وهذا على وجهين : أحدهما : أن يقول كل واحدة ثلاثا وثلاثين .
والثاني : أن يقول كل واحدة إحدى عشرة مرة والثلاث والثلاثون في الحديث المتفق عليه في الصحيحين .
والخامس : يكبر أربعا وثلاثين ليتم مائة .
والسادس : يقول : الثلاثة عشرا عشرا . فهذا هو الذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك مناسب لأن المصلي يناجي ربه . فدعاؤه له ومسألته إياه وهو يناجيه أولى به من مسألته ودعائه بعد انصرافه عنه .
[ ص: 495 ] وأما الذكر بعد الانصراف فكما قالت عائشة - رضي الله عنها - هو مثل مسح المرآة بعد صقالها فإن الصلاة نور فهي تصقل القلب كما تصقل المرآة ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة وقد قال الله تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } قيل : إذا فرغت من أشغال الدنيا فانصب في العبادة وإلى ربك فارغب .
وهذا أشهر القولين . وخرج شريح القاضي على قوم من الحاكة يوم عيد وهم يلعبون فقال : ما لكم تلعبون ؟ قالوا : إنا تفرغنا قال : أوبهذا أمر الفارغ ؟ وتلا قوله تعالى { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } . ويناسب هذا قوله تعالى { يا أيها المزمل } { قم الليل إلا قليلا } إلى قوله : { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } { إن لك في النهار سبحا طويلا } أي ذهابا ومجيئا وبالليل تكون فارغا . وناشئة الليل في أصح القولين : إنما تكون بعد النوم يقال نشأ إذا قام بعد النوم ; فإذا قام بعد النوم كانت مواطأة قلبه للسانه أشد لعدم ما يشغل القلب وزوال أثر حركة النهار بالنوم وكان قوله ( أقوم .
وقد قيل : { فإذا فرغت } من الصلاة { فانصب } في الدعاء { وإلى ربك فارغب } . وهذا القول سواء كان صحيحا أو لم يكن فإنه يمنع الدعاء في آخر الصلاة لا سيما والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهذا فلا بد أن يمتثل ما أمره الله به .
فقول من قال : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء يشبه قول من قال في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد فإذا فعلت ذلك فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد . وهذه الزيادة سواء كانت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام من أدرجها في حديث ابن مسعود كما يقول ذلك من ذكره من أئمة الحديث . ففيها أن قائل ذلك جعل ذلك قضاء للصلاة فهكذا جعله هذا المفسر فراغا من الصلاة مع أن تفسير قوله : { فإذا فرغت فانصب } أي فرغت من الصلاة قول ضعيف فإن قوله : إذا فرغت مطلق ولأن الفارغ إن أريد به الفارغ من العبادة فالدعاء أيضا عبادة وإن أريد به الفراغ من [ ص: 497 ] أشغال الدنيا بالصلاة فليس كذلك .
[ ص: 499 ] وأما لفظ " دبر الصلاة " فقد يراد به آخر جزء منه وقد يراد به ما يلي آخر جزء منه . كما في دبر الإنسان فإنه آخر جزء منه ومثله لفظ " العقب " قد يراد به الجزء المؤخر من الشيء كعقب الإنسان وقد يراد به ما يلي ذلك . فالدعاء المذكور في دبر الصلاة إما أن يراد به آخر جزء منها ليوافق بقية الأحاديث أو يراد به ما يلي آخرها ويكون ذلك ما بعد التشهد كما سمي ذلك قضاء للصلاة وفراغا منها حيث لم يبق إلا السلام المنافي للصلاة ; بحيث لو فعله عمدا في الصلاة بطلت صلاته ولا تبطل سائر الأذكار المشروعة في الصلاة أو يكون مطلقا أو مجملا . وبكل حال فلا يجوز أن يخص به ما بعد السلام ; لأن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل ذلك ولا يجوز أن يشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة بالألفاظ الصريحة .
والناس لهم في هذه فيما بعد السلام ثلاثة أحوال : منهم من لا يرى قعود الإمام مستقبل المأموم لا بذكر ولا دعاء ولا غير ذلك وحجتهم ما يروى عن السلف أنهم كانوا يكرهون للإمام أن يستديم استقبال القبلة بعد السلام فظنوا أن ذلك يوجب قيامه من مكانه ولم يعلموا أن انصرافه مستقبل المأمومين بوجهه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل يحصل هذا المقصود [ ص: 500 ] وهذا يفعله من يفعله من أصحاب مالك .
ومنهم من يرى دعاء الإمام والمأموم بعد السلام ثم منهم من يرى ذلك في الصلوات الخمس ومنهم من يراه في صلاة الفجر والعصر كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم وليس مع هؤلاء بذلك سنة وإنما غايتهم التمسك بلفظ مجمل أو بقياس كقول بعضهم ما بعد الفجر والعصر ليس بوقت صلاة فيستحب فيه الدعاء ومن المعلوم أن ما تقدمت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة الصحيحة بل المتواترة لا يحتاج فيه إلى مجمل ولا إلى قياس .
وأما قول عقبة بن عامر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اقرأ بالمعوذات دبر كل صلاة فهذا بعد الخروج منها .
قال المصنف في " الأحكام " : والظاهر أن المراد بدبر الصلاة في الأحاديث الثلاثة قبل السلام توفيقا بينه وبين ما تقدم من حديث ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة . قلت : وهذا الذي قاله صحيح فإن هذا الحديث في الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة - رضي الله عنها - رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599055نعم عذاب القبر حق } . قالت عائشة : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر . والأحاديث في هذا الباب يوافق بعضها بعضا وتبين ما تقدم والله أعلم .