وسئل رحمه الله عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة ويحصل له الوسواس تارة فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة ؟ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة ؟ أو منقصة لها أم لا ؟ وفي قول عمر : إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة . هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أو لا ؟ ؟ .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . الوسواس . لا يبطل الصلاة إذا كان قليلا باتفاق أهل العلم بل ينقص الأجر كما قال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها .
وما زال في المصلين من هو كذلك كما قال سعد بن معاذ - رضي الله عنه في ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن : كنت أنا أنا ; إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه وإذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها . وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر . وكان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه . وقالوا nindex.php?page=showalam&ids=16284لعامر بن عبد القيس : أتحدث نفسك بشيء في الصلاة فقال : أوشيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي ؟ قالوا : إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة فقال : أبالجنة والحور ونحو ذلك ؟ فقالوا : لا ولكن بأهلينا وأموالنا فقال : لأن تختلف الأسنة في أحب إلي وأمثال هذا متعدد .
والذي يعين على ذلك شيئان : قوة المقتضي وضعف الشاغل . أما الأول : فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر [ ص: 606 ] القراءة والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله تعالى كأنه يراه فإن المصلي إذا كان قائما فإنما يناجي ربه . والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد وهذا يكون بحسب قوة الإيمان . والأسباب المقوية للإيمان كثيرة ; ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599155حبب إلي من دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة } . وفي حديث آخر أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599156أرحنا يا بلال بالصلاة } ولم يقل : أرحنا منها . وفي أثر آخر { ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهموما حتى يقوم إلى الصلاة } أو كلام يقارب هذا . وهذا باب واسع .
فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته وإخلاص الدين له وخوفه ورجائه والتصديق بأخباره وغير ذلك مما يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلا عظيما ويقوى ذلك كلما ازداد العبد تدبرا للقرآن . وفهما ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون تعالى معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه ويأنس به ويلتذ بذكره ويستريح به ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله ومتى كان [ ص: 607 ] للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكا لا صلاح معه ومتى لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه ولا حول ولا قوة إلا به ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه .
وأما زوال العارض : فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة وهذا في كل عبد بحسبه فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها .
قال كثير من العلماء : فكراهة ذلك وبغضه وفرار القلب منه هو صريح الإيمان والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس وشيطان الإنس إذا غلب كذب والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره لا بد له من ذلك فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } . وكلما أراد العبد توجها إلى الله تعالى بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى أراد قطع الطريق عليه ; ولهذا قيل لبعض السلف : إن اليهود والنصارى يقولون : لا [ ص: 609 ] نوسوس فقال صدقوا وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب . وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه .
ومع هذا : فالناس متفاوتون في ذلك فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة مع تدبره للأمور بها وعمر قد [ ص: 610 ] ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو المحدث الملهم فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى ولا ريب أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة فكيف بالباطنة .
وبالجملة فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب أو فيما لم يضق وقته وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة . ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته والإنسان دائما يذكر في الصلاة ما لا يذكره خارج الصلاة ومن ذلك ما يكون من الشيطان كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي موضعه فقال : قم فصل فقام فصلى فذكره فقيل له : من أين علمت ذلك ؟ قال : علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن . لكن العبد الكيس يجتهد في كمال الحضور مع كمال فعل بقية المأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .