فأجاب : الحمد لله رب العالمين . إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله : فهذا حق . فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى : وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل ; الذين أرسلهم الله إلى عباده . فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة .
فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه : فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل . وهؤلاء مشبهون لله شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أندادا . وفي القرآن من الرد على هؤلاء : ما لم تتسع له هذه الفتوى . فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس : يكونون على أحد وجوه ثلاثة : - إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه . [ ص: 127 ]
وكل ما في الوجود من الأسباب : فهو خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه ; بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم - في الحقيقة - شركاؤهم في الملك . والله تعالى : ليس له شريك في الملك بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . والوجه الثالث : أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم : إلا بمحرك يحركه من خارج .
فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يدل عليه ; بحيث يكون يرجوه ويخافه : تحركت إرادة الملك [ ص: 128 ] وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه . والله تعالى : هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض : فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك فهو الذي خلق ذلك كله وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلم أو من يرجوه الرب ويخافه .
. فأخبر أن ما يدعي من دونه لا يملك كشف ضر ولا تحويله وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه . فهو - سبحانه - قد نفى ما من الملائكة والأنبياء ; إلا من الشفاعة بإذنه والشفاعة هي الدعاء .
وكل داع شافع دعا الله - سبحانه وتعالى - وشفع : فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته وهو الذي يجيب الدعاء ويقبل الشفاعة فهو الذي خلق السبب والمسبب ، والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله - سبحانه وتعالى - . وإذا كان كذلك : فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ; بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله - سبحانه وتعالى - والله يقدر له من الأسباب - من دعاء الخلق وغيرهم - ما شاء .
فذكر - سبحانه - استغفارهم واستغفار الرسول لهم إذ ذاك مما أمر به الرسول حيث أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ولم يأمر الله مخلوقا أن يسأل مخلوقا شيئا لم يأمر الله المخلوق به بل ما أمر الله العبد أمر إيجاب أو استحباب ; ففعله هو عبادة لله وطاعة وقربة إلى الله وصلاح لفاعله وحسنة فيه وإذا فعل ذلك كان أعظم لإحسان الله إليه وإنعامه عليه .
بل أجل نعمة أنعم الله بها على عباده أن هداهم للإيمان . والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة والحسنات وكلما ازداد العبد عملا للخير . ازداد إيمانه . هذا هو الإنعام الحقيقي المذكور في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } وفي قوله : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } . بل نعم الدنيا بدون الدين هل هي من نعمه أم لا ؟ فيه قولان مشهوران للعلماء من أصحابنا وغيرهم . [ ص: 134 ]
والقدرية عندهم إنما أنعم بالقدرة عليه الصالحة للضدين فقط . والمقصود هنا : أن الله لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا إلا ما كان مصلحة لذلك المخلوق إما واجب أو مستحب . فإنه سبحانه لا يطلب من العبد إلا ذلك فكيف يأمر غيره أن يطلب منه غير ذلك ؟ بل قد حرم على العبد أن يسأل العبد ماله إلا عند الضرورة . وإن كان قصده مصلحة المأمور أو مصلحته ومصلحة المأمور فهذا يثاب على ذلك وإن كان قصده حصول مطلوبه من غير قصد منه لانتفاع المأمور فهذا من نفسه أتى ومثل هذا السؤال لا يأمر الله به قط بل قد نهى عنه إذ هذا سؤال محض للمخلوق من غير قصده لنفعه ولا لمصلحته والله يأمرنا أن نعبده ونرغب إليه ، ويأمرنا أن نحسن إلى عباده وهذا لم يقصد لا هذا ولا هذا فلم يقصد الرغبة إلى الله ودعائه وهو الصلاة .
ولا قصد الإحسان إلى المخلوق الذي هو الزكاة وإن كان العبد قد لا يأثم بمثل هذا السؤال ; لكن فرق ما بين ما يؤمر به العبد وما يؤذن له فيه ألا ترى أنه قال في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب : أنهم لا يسترقون . وإن كان الاسترقاء جائزا . وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع .
ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه : فإنه لا ينكر ما خلقه الله من الأسباب كما جعل المطر سببا لإنبات النبات . قال الله تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة } وكما جعل الشمس والقمر سببا لما يخلقه بهما وكما جعل الشفاعة والدعاء سببا لما يقضيه بذلك مثل صلاة المسلمين على جنازة الميت ; فإن ذلك من الأسباب التي يرحمه الله بها ويثيب عليها المصلين عليه ; لكن ينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور : أحدها : أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب بل لا بد معه من أسباب أخر ومع هذا فلها موانع .
فإن لم يكمل الله الأسباب ويدفع الموانع : لم يحصل المقصود وهو - سبحانه - ما شاء كان - وإن لم يشأ الناس - وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء الله . الثاني : أن لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم فمن أثبت شيئا سببا بلا علم أو يخالف الشرع : كان مبطلا مثل من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=595130 : أنه نهى عن النذر وقال : إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل } . الثالث : أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ منها شيء سببا إلا أن تكون مشروعة ; فإن العبادات مبناها على التوقيف ; فلا يجوز للإنسان أن يشرك بالله فيدعو غيره - وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه - [ ص: 138 ] وكذلك لا يعبد الله بالبدع المخالفة للشريعة - وإن ظن ذلك - فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك وقد يحصل بالكفر والفسوق والعصيان بعض أغراض الإنسان فلا يحل له ذلك إذ المفسدة الحاصلة بذلك أعظم من المصلحة الحاصلة به إذ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فما أمر الله به : فمصلحته راجحة وما نهى عنه : فمفسدته راجحة وهذه الجمل : لها بسط لا تحتمله هذه الورقة . والله أعلم .