[ ص: 222 ] سئل رحمه الله عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية أم سنة فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر . فهل تصح صلاته أم لا ؟ وما أقوال العلماء في ذلك ؟ وما حجة كل منهم ؟ وما الراجح من أقوالهم ؟ .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم شعائر الإسلام وعلى ما ثبت في فضلها عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=16876تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة } هكذا في حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة . وأبي سعيد بخمس وعشرين ومن حديث ابن عمر بسبع وعشرين والثلاثة في الصحيح .
وقد جمع بينهما . بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل [ ص: 223 ] الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة والفضل خمس وعشرون وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة والفضل بينهما فصار المجموع سبعا وعشرين ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل إما في خلوته وإما في غير خلوته فهو مخطئ ضال وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم فعطل المساجد عن الجميع والجماعات التي أمر الله بها ورسوله وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهى الله عنها ورسوله وصار مشابها لمن نهى عن عبادة الرحمن وأمر بعبادة الأوثان .
ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان أو على الكفاية أو سنة مؤكدة على ثلاثة أقوال : فقيل : هي سنة مؤكدة فقط وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب مالك وكثير من أصحاب الشافعي ويذكر رواية عن أحمد .
وقيل : هي واجبة على الكفاية وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي وقول بعض أصحاب مالك وقول في مذهب أحمد .
وقيل هي واجبة على الأعيان ; وهذا هو المنصوص عن أحمد [ ص: 226 ] وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث وغيرهم . وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردا لغير عذر هل تصح صلاته ؟ على قولين ؟ ( أحدهما لا تصح وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى في شرح المذهب عنهم وبعض متأخريهم Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وهو قول طائفة من السلف واختاره ابن حزم وغيره .
( والثاني تصح مع إثمه بالترك وهذا هو المأثور عن أحمد وقول أكثر أصحابه .
والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده . قالوا : ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد ولم يكن هناك تفضيل وحملوا ما جاء من هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق على من ترك الجمعة أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق وإن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة مع الصلاة في البيوت .
وأما الموجبون : فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار .
( أما الكتاب فقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } الآية . وفيها دليلان : [ ص: 227 ] ( أحدهما أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف وذلك دليل على وجوبها حال الخوف وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن .
( الثاني : أنه سن صلاة الخوف جماعة وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر . كاستدبار القبلة والعمل الكثير فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور وكذلك التخلف عن متابعة الإمام كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم . قالوا : وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة .
[ ص: 228 ] فإن قيل : فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة . قيل : خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة فمن أدرك الركعة فقد أدرك السجدة فأمر بما يدرك به الركعة كما قال لمريم : { اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } فإنه لو قيل : اقنتي مع القانتين لدل على وجوب إدراك القيام ولو قيل : اسجدي لم يدل على وجوب إدراك الركوع بخلاف قوله : { واركعي مع الراكعين } فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله وهو المطلوب .
ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة .
وأما من حمل العقوبة على النفاق لا على ترك الصلاة فقوله ضعيف لأوجه : ( أحدها أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم .
( الثاني أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره .
( الثالث أنه سيأتي إن شاء الله حديث nindex.php?page=showalam&ids=100ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته فلم يأذن له nindex.php?page=showalam&ids=100وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين أثنى عليه القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 230 ] يستخلفه على المدينة وكان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم .
فقد أخبر nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل والتطوعات التي مع الفرائض وصلاة الضحى ونحو ذلك . كان منهم من يفعلها ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه كما { nindex.php?page=hadith&LINKID=599343قال له الأعرابي : والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه . فقال : أفلح إن صدق } ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه إلا منافق كان واجبا على الأعيان كخروجهم إلى غزوة تبوك فإن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 231 ] أمر به المسلمين جميعا لم يأذن لأحد في التخلف إلا من ذكر أن له عذرا فأذن له لأجل عذره . ثم لما رجع كشف الله أسرار المنافقين وهتك أستارهم وبين أنهم تخلفوا لغير عذر . والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر حتى هجران نسائهم لهم حتى تاب الله عليهم .
( فإن قيل فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها وتجوزون تحريق البيوت عليه إذا لم يكن فيها ذرية .
قيل له : من الأفعال ما يكون واجبا ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه فيتركها متأولا وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لأحد تأويل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد باشرهم بالإيجاب .
ومن قال : لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر احتج بأدلة الوجوب قال : وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة كسائر الواجبات .
[ ص: 233 ] وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه فنظير ذلك فوت الجمعة وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثما وعليه الظهر إذ لا يمكن سوى ذلك . وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها وليس هناك جماعة أخرى فإنه يصلي منفردا وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة .
وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفردا لغير عذر ثم أقيمت الجماعة فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة .
وتمام الكلام في ذلك : أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث وهو : هل المراد بهما المعذور أو غيره ؟ على قولين : فقالت طائفة المراد بهما غير المعذور . قالوا لأن المعذور أجره تام بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=10093إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم } قالوا : فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة والإقامة . فكيف تكون صلاة المعذور قاعدا أو منفردا دون صلاته في الجماعة قاعدا وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض ; لأن القيام في الفرض واجب .
ومن قال هذا القول لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعا ; لأنه قد ثبت أنه قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=36735ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم } . وقد [ ص: 235 ] طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعا لغير عذر ; لأجل هذا الحديث ولتعذر حمله على المريض كما تقدم .
ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثا في الإسلام . وقالوا : لا يعرف أن أحدا قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح ولو كان هذا مشروعا لفعله المسلمون على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم أو بعده ولفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة لتبيين الجواز فقد كان يتطوع قاعدا ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة فلو كان هذا سائغا لفعله ولو مرة . أو لفعله أصحابه . وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم حيث حملوا قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=16876تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة } على أنه أراد غير المعذور فيقال لهم : لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور والتفضيل هناك في حق المعذور وهل هذا إلا تناقض .
وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور فطرد دليله وحينئذ فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر .
وأيضا فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح ولكن عجز عنه . فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة في جماعة والصلاة قائما ثم ترك ذلك لمرضه فإنه يكتب له ما كان يعمل ، وهو صحيح مقيم وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر وقد كان يتطوع في الحضر قائما يكتب له ما كان يعمل في الإقامة . فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة ولا الصلاة قائما إذا مرض فصلى وحده أو صلى قاعدا فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح .
ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعدا مثل صلاة القائم وصلاته منفردا مثل الصلاة في جماعة وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس ولا قاله أحد .
وأيضا فيقال : تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد ولصلاة القائم على القاعد والقاعد على المضطجع إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة .
[ ص: 238 ] أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك أو لا تصح فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها ; بل وجوب القيام والقعود وسقوط ذلك ووجوب الجماعة وسقوطها : يتلقى من أدلة أخر . وكذلك أيضا : كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث بل يتلقى من أحاديث أخر وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم لا لكل أحد .
وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض كقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=20742صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب } . وبين جواز التطوع قاعدا لما رآهم وهم يصلون قعودا فأقرهم على ذلك وكان يصلي قاعدا مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر . كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه فليس بينها تعارض ولا تناف وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله . والله أعلم .