فأجاب : الحمد لله . للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه . وأصول الأقوال ثلاثة : طرفان ووسط .
فأحد الطرفين أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال .
والثاني : أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال .
والثالث : وهو قول أكثر السلف ; أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت ولم يقرأ فإن استماعه لقراءة الإمام خير من قراءته وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه فإن قراءته خير من سكوته فالاستماع لقراءة الإمام أفضل من القراءة والقراءة أفضل من السكوت هذا قول جمهور العلماء كمالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما وطائفة من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة وهو القول القديم للشافعي وقول nindex.php?page=showalam&ids=16908محمد بن الحسن .
والذين قالوا : يقرأ حال الجهر والمخافتة إنما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة وما زاد على الفاتحة فإن المشروع أن يكون فيه مستمعا لا قارئا .
[ ص: 267 ] وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة ، أو مستحبة ؟ على قولين : ( أحدهما : أنها واجبة وهو قول الشافعي في الجديد وقول ابن حزم .
( والثاني أنها مستحبة وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد واختيار جدي أبي البركات ولا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف في وقت العصر وفي فسخ الحج ونحو ذلك من المسائل .
يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي وذلك أن كثيرا من العلماء يقول صلاة العصر يخرج وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه كالمشهور من مذهب مالك والشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد .
وأبو حنيفة يقول : حينئذ يدخل وقتها ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر بخلاف غيرها فإنه إذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله سوى ظل الزوال صحت صلاته والمغرب أيضا تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد الغروب والعشاء تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض إلى ثلث الليل والفجر [ ص: 268 ] تجزئ باتفاقهم إذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الإسفار الشديد وأما العصر فهذا يقول : تصلى إلى المثلين وهذا يقول لا تصلى إلا بعد المثلين والصحيح أنها تصلى من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس فوقتها أوسع كما قاله هؤلاء وهؤلاء وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخرى عن أحمد .
والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه لكن ولله الحمد القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق .
ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة فإن الحج الذي اتفق الأمة على جوازه أن يهل متمتعا يحرم بعمرة ابتداء ويهل قارنا وقد ساق الهدي فأما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدي ففي حجه نزاع بين السلف والخلف .
والمقصود هنا القراءة خلف الإمام فنقول : إذا جهر الإمام استمع لقراءته فإن كان لا يسمع لبعده فإنه يقرأ في أصح القولين وهو قول أحمد وغيره وإن كان لا يسمع لصممه أو كان يسمع [ ص: 269 ] همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول : ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره .
والأظهر أنه يقرأ ; لأن الأفضل أن يكون إما مستمعا وإما قارئا وهذا ليس بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع فقراءته أفضل من سكوته فنذكر الدليل على الفصلين . على أنه في حال الجهر يستمع وأنه في حال المخافتة يقرأ .
فالدليل على الأول الكتاب والسنة والاعتبار : ( أما الأول فإنه تعالى قال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة وقال بعضهم في الخطبة وذكر nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر .
ثم يقول : قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } لفظ عام فإما أن يختص القراءة في الصلاة أو في القراءة في غير الصلاة أو يعمهما . والثاني باطل قطعا ; لأنه لم يقل أحد من المسلمين أنه يجب الاستماع خارج الصلاة ولا يجب في [ ص: 270 ] الصلاة ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه متابعته أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلة في الآية إما على سبيل الخصوص وإما على سبيل العموم وعلى التقديرين فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب .
فالمقصود حاصل . فإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة فيما زاد على الفاتحة . والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن . والفاتحة أم القرآن وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة والفاتحة أفضل سور القرآن . وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها مع إطلاق لفظ الآية وعمومها مع أن قراءتها أكثر وأشهر وهي أفضل من غيرها . فإن قوله : { وإذا قرئ القرآن } يتناولها كما يتناول غيرها وشموله لها أظهر لفظا ومعنى . والعادل عن استماعها إلى قراءتها إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع وهذا غلط يخالف النص والإجماع فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها .
[ ص: 271 ] فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة وهذا لم يقل به أحد . وإنما نازع من نازع في الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر أو مستحبة له حينئذ .
وجوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين وهو القراءة فلما دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر بالأدنى وينهى عن الأعلى .
وهذا الحديث روي مرسلا ومسندا لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن nindex.php?page=showalam&ids=16439عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسنده بعضهم ورواه ابن ماجه مسندا وهذا المرسل قد عضده [ ص: 272 ] ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومرسله من أكابر التابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل .
فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به فإن من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا مؤتمين به وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها حتى في الأفعال فإذا أدركه ساجدا سجد معه وإذا أدركه في وتر من صلاته [ ص: 273 ] تشهد عقب الوتر وهذا لو فعله منفردا لم يجز وإنما فعله لأجل الائتمام فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد ويسقط به ما يجب على المنفرد .
وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرءون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر .
فإن قيل : قال البيهقي : ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده ولم يحدث عنه غير الزهري .
[ ص: 275 ] قيل : ليس كذلك بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه : صحيح الحديث حديثه مقبول . وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال : روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن أبيه عمر وسالم بن عمار ابن أكيمة بن عمر .
وقد روى مالك في موطئه عن nindex.php?page=showalam&ids=17283وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : " من صلى ركعة لم يقرأ فيها لم يصل إلا وراء الإمام " وروى أيضا عن نافع أن nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر كان إذا سئل : هل يقرأ خلف الإمام ؟ يقول : إذا صلى أحدكم خلف الإمام تجزئه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ . قال : وكان nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال : لا قراءة مع الإمام في شيء .
وروى البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام فقال : أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلا وسيكفيك ذلك الإمام وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة وأهل الكوفة من الصحابة وفي كلامهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام .
[ ص: 276 ] وكذلك البخاري في " كتاب القراءة خلف الإمام " عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب قال : وروى الحارث عن علي يسبح في الأخريين قال : ولم يصح وخالفه عبيد الله بن أبي رافع حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=14274عثمان بن سعيد سمع nindex.php?page=showalam&ids=16525عبيد الله بن عمرو عن إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبيد الله بن أبي رافع . مولى بني هاشم حدثه عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب : إذا لم يجهر الإمام في الصلوات فاقرأ بأم الكتاب وسورة أخرى في الأوليين من الظهر والعصر وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر وفي الآخرة من المغرب وفي الأخريين من العشاء .
وأيضا ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة : دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام .
وأيضا : فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين : إما أن يقرأ مع الإمام وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ ولم نعلم نزاعا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة . فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر بل نقول : لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم ولا يستحب للإمام [ ص: 277 ] السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهم .
وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون ولا نقل هذا أحد عنه بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح وفي السنن { nindex.php?page=hadith&LINKID=599361أنه كان له سكتتان : سكتة في أول القراءة وسكتة بعد الفراغ من القراءة } وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة . وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات ولا أربع سكتات فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين والسكتة التي عقب قوله : { ولا الضالين } من جنس السكتات التي عند رءوس الآي . ومثل هذا لا يسمى سكوتا ; ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يقرأ في مثل هذا .
والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين وذلك أنها سكتة يسيرة قد لا ينضبط مثلها وقد روي أنها بعد [ ص: 279 ] الفاتحة .
ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين فعلم أن إحداهما طويلة والأخرى بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة . وأيضا فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى وإما في الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرءون الفاتحة مع أن ذلك لو كان مشروعا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله فعلم أنه بدعة .
وأيضا فالمقصود بالجهر استماع المأمومين ولهذا يؤمنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه ويخطب من لم يستمع لخطبته وهذا سفه تنزه عنه الشريعة . ولهذا روي في الحديث : { nindex.php?page=hadith&LINKID=69232مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارا } فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه .
[ ص: 280 ] فصل وإذا كان المأموم مأمورا بالاستماع والإنصات لقراءة الإمام لم يشتغل عن ذلك بغيرها لا بقراءة ولا ذكر ولا دعاء ففي حال جهر الإمام لا يستفتح ولا يتعوذ . وفي هذه المسألة نزاع . وفيها ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد . قيل : إنه حال الجهر يستفتح ويتعوذ ولا يقرأ ; لأنه بالاستماع يحصل له مقصود القراءة ; بخلاف الاستفتاح والاستعاذة فإنه لا يسمعهما .
وقيل : يستفتح ولا يتعوذ لأن الاستفتاح تابع لتكبيرة الإحرام بخلاف التعوذ فإنه تابع للقراءة فمن لم يقرأ لا يتعوذ .
وقيل : لا يستفتح ولا يتعوذ حال الجهر وهذا أصح فإن ذلك يشغل عن الاستماع والإنصات المأمور به وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء من الأشياء .
ثم اختلف أصحاب أحمد : فمنهم من قال هذا الخلاف إنما هو في حال سكوت الإمام هل يشتغل بالاستفتاح أو الاستعاذة أو بأحدهما [ ص: 281 ] أو لا يشتغل إلا بالقراءة لكونها مختلفا في وجوبها . وأما في حال الجهر فلا يشتغل بغير الإنصات والمعروف عند أصحابه أن هذا النزاع هو في حال الجهر لما تقدم من التعليل وأما في حال المخافتة فالأفضل له أن يستفتح واستفتاحه حال سكوت الإمام أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما ; لأن القراءة يعتاض عنها بالاستماع بخلاف الاستفتاح .
وأما قول القائل : إن قراءة المأموم مختلف في وجوبها فيقال : وكذلك الاستفتاح هل يجب ؟ فيه قولان مشهوران في مذهب أحمد . ولم يختلف قوله : إنه لا يجب على المأموم القراءة في حال الجهر . واختار ابن بطة وجوب الاستفتاح وقد ذكر ذلك روايتين عن أحمد .
فعلم أن من قال من أصحابه كأبي الفرج ابن الجوزي أن القراءة حال المخافتة أفضل في مذهبه من الاستفتاح فقد غلط على مذهبه . ولكن هذا يناسب قول من استحب قراءة الفاتحة حال الجهر وهذا ما علمت أحدا قاله من أصحابه قبل جدي أبي البركات وليس هو مذهب أحمد ولا عامة أصحابه مع أن تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية في [ ص: 282 ] نفس الأمر لطلب الاحتياط .
وعلى هذا ففي حال المخافتة هل يستحب له مع الاستفتاح الاستعاذة إذا لم يقرأ ؟ على روايتين .
والصواب : أن الاستعاذة لا تشرع إلا لمن قرأ فإن اتسع الزمان للقراءة استعاذ وقرأ وإلا أنصت .
[ ص: 284 ] وفي المسند عن ابن مسعود قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599365كانوا يقرءون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : خلطتم علي القرآن } فهذا كراهة منه لمن نازعه وخالجه وخلط عليه القرآن وهذا لا يكون ممن قرأ في نفسه بحيث لا يسمعه غيره وإنما يكون ممن أسمع غيره وهذا مكروه لما فيه من المنازعة لغيره لا لأجل كونه قارئا خلف الإمام وأما مع مخافتة الإمام . فإن هذا لم يرد حديث بالنهي عنه ولهذا قال : " أيكم القارئ ؟ " . أي القارئ الذي نازعني لم يرد بذلك القارئ في نفسه فإن هذا لا ينازع ولا يعرف أنه خالج النبي صلى الله عليه وسلم وكراهة القراءة خلف الإمام إنما هي إذا امتنع من الإنصات المأمور به أو إذا نازع غيره فإذا لم يكن هناك إنصات مأمور به ولا منازعة فلا وجه للمنع من تلاوة القرآن في الصلاة . والقارئ هنا لم يعتض عن القراءة باستماع فيفوته الاستماع والقراءة جميعا مع الخلاف المشهور في وجوب القراءة في مثل هذه الحال بخلاف وجوبها في حال الجهر فإنه شاذ حتى نقل أحمد الإجماع على خلافه .
وأيضا : فقد تكلم العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة وبسطوا القول فيها وفي غيرها من المسائل . وتارة أفردوا القول فيها في مصنفات مفردة وانتصر طائفة للإثبات في مصنفات مفردة : كالبخاري وغيره . وطائفة للنفي : كأبي مطيع البلخي وكرام وغيرهما .
ومن تأمل مصنفات الطوائف تبين له القول الوسط فإن عامة المصنفات المفردة تتضمن صور كل من القولين المتباينين قول من ينهى عن القراءة خلف الإمام حتى في صلاة السر . وقول من يأمر بالقراءة خلفه مع سماع جهر الإمام والبخاري ممن بالغ في الانتصار للإثبات بالقراءة حتى مع جهر الإمام ; بل يوجب ذلك كما يقوله الشافعي في الجديد وابن حزم ومع هذا فحججه ومصنفه إنما تتضمن تضعيف قول أبي حنيفة في هذه المسألة وتوابعها مثل كونه .
[ ص: 288 ] وقال أيضا رحمه الله في القراءة خلف الإمام بعد كلام : والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } وهذا أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم في صحيحيهما وعليه اعتمد البخاري في مصنفه . فقال : ( باب وجوب القراءة في كل ركعة وروى هذا الحديث من طرق : مثل رواية ابن عيينة nindex.php?page=showalam&ids=16214وصالح بن كيسان ويوسف بن زيد . قال البخاري : وقال معمر عن الزهري : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا } وعامة الثقاة . لم يتابع معمرا في قوله : " فصاعدا " مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب وقوله : " فصاعدا " غير معروف ما أراد به حرفان أو أكثر من ذلك ; إلا أن يكون كقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30508لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا } فقد تقطع اليد في ربع دينار وفي أكثر من دينار . قال البخاري : ويقال : إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرا وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره ولا يعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا .
قلت : وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام فإن أحدا لا يقول إن زيادته على الفاتحة وترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير . ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة وكذلك عللها البخاري في حديث عبادة فإنها تدل على أن المأموم المستمع لم يدخل في الحديث ولكن هب أنها ليست في حديث عبادة فهي في حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
وأيضا فالكتاب والسنة يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام ومن العلماء من أبطل صلاته إذا لم ينصت بل قرأ معه .
وحينئذ يقال تعارض عموم قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة إلا بأم القرآن } [ ص: 290 ] وعموم الأمر بالإنصات فهؤلاء يقولون : ينصت إلا في حال قراءة الفاتحة وأولئك يقولون : قوله { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة إلا بأم القرآن } يستثنى منه المأمور بالإنصات إن سلموا شمول اللفظ له فإنهم يقولون ليس في الحديث دلالة على وجوب القراءة على المأموم فإنه إنما قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن } . وقد ثبت بالكتاب والسنة وبالإجماع أن إنصات المأموم لقراءة إمامه يتضمن معنى القراءة معه وزيادة ; فإن استماعه فيما زاد على الفاتحة أولى به بالقراءة باتفاقهم فلو لم يكن المأموم المستمع لقراءة إمامه أفضل من القارئ لكان قراءته أفضل له ولأنه قد ثبت الأمر بالإنصات لقراءة القرآن ولا يمكنه الجمع بين الإنصات والقراءة ولولا أن الإنصات يحصل به مقصود القراءة وزيادة لم يأمر الله بترك الأفضل لأجل المفضول .
وأيضا فهذا عموم قد خص منه المسبوق بحديث أبي بكرة وغيره وخص منه الصلاة بإمامين فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة قرأ من حيث انتهى أبو بكر ولم يستأنف قراءة الفاتحة لأنه بنى على صلاة أبي بكر فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع فعن المأموم أولى .
وخص منه حال العذر وحال استماع الإمام حال عذر فهو مخصوص وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام لم يخص معه شيء لا بنص [ ص: 291 ] خاص ولا إجماع وإذا تعارض عمومان أحدهما محفوظ والآخر مخصوص وجب تقديم المحفوظ .
وأيضا فإن الأمر بالإنصات داخل في معنى اتباع المأموم وهو دليل على أن المنصت يحصل له بإنصاته واستماعه ما هو أولى به من قراءته وهذا متفق عليه بين المسلمين في الخطبة وفي القراءة في الصلاة في غير محل النزاع فالمعنى الموجب للإنصات يتناول الإنصات عن الفاتحة وغيرها .
وأما وجوب قراءتها في كل صلاة فإذا أنصت إلى الإمام الذي يقرؤها كان خيرا مما يقرأ لنفسه وهو لو نذر أن يصلي في المسجد الأقصى لكان صلاته في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم تجزئه ; بل هو أفضل له كما دلت على ذلك السنة وهو لم يوجب على نفسه إلا الصلاة في البيت المقدس ; لكن هذا أفضل منه . فإذا كان هذا في إيجابه على نفسه جعل الشارع الأفضل يقوم مقام المنذور وإلغاء تعيينه هو بالنذر فكيف يوجب الشارع شيئا ولا يجعل أفضل منه يقوم مقامه والشارع حكيم لا يعين شيئا قط وغيره أولى بالفعل منه ; بخلاف الإنسان فإنه قد يخص بنذره ووقفه ووصيته ما غيره أولى منه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي إذا سها بسجود السهو في غير حديث .
[ ص: 292 ] ثم المأموم إذا سها يتحمل إمامه عنه سهوه ; لأجل متابعته له مع إمكانه أن يسجد بعد سلامه . وإنصاته لقراءته أدخل في المتابعة فإن الإمام إنما يجهر لمن يستمع قراءته فإذا اشتغل أحد من المصلين بالقراءة لنفسه كان كالمخاطب لمن لا يستمع إليه كالخطيب الذي يخطب الناس وكلهم يتحدثون ومن فعل هذا فهو كما جاء في الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=69232كحمار يحمل أسفارا } فإنه لم يفقه معنى المتابعة كالذي يرفع رأسه قبل الإمام فإنه كالحمار ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=1887أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار } فإنه متبع للإمام فكيف يسابقه ولهذا ضرب عمر من فعل ذلك وقال : لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت . وأمر إذا رفع رأسه سهوا أن يعود فيتخلف بقدر ما سبق به الإمام وقد نص أحمد وغيره على ذلك وذكر هو وغيره الآثار في ذلك عن الصحابة .
[ ص: 293 ] و البخاري احتج به في هذا المصنف وإن كان لم يخرجه في صحيحه على عادته في مثل ذلك وإسناده المشهور الذي رواه مسلم حديث العلاء عن ابن السائب عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وبعضهم يقول : عن أبيه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ورواه من حديث عائذ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
وأيضا : فقول nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : ما أسمعنا أسمعناكم وما أخفى علينا أخفينا عليكم : دليل على أن المراد به الإمام وإلا فالمأموم لا يسمع أحدا قراءته .
وأما قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599374أفي كل صلاة قراءة ؟ } وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=30829لا صلاة إلا بأم القرآن } . فصلاة المأموم المستمع لقراءة الإمام فيها قراءة بل الأكثرون يقولون الإمام ضامن لصلاته فصلاته في ضمن صلاة الإمام ففيها القراءة . وجمهورهم يقولون إذا كان الإمام أميا لم يقتد به القارئ . فلو كانت قراءة الإمام لا تغني عن [ ص: 295 ] المأموم شيئا بل كل يقرأ لنفسه : لم يكن فرق بين عجزه عن القراءة وعجزه عن غير ذلك من الواجبات ; ولأن الإمام مأمور باستماع ما زاد على الفاتحة وليست قراءة واجبة . فكيف لا يؤمر بالاستماع لقراءة الإمام الفاتحة وهي الفرض وكيف يؤمر باستماع التطوع دون استماع الفرض . وإذا كان الاستماع للقراءة الزائدة على الفاتحة واجبا بالكتاب والسنة والإجماع فالاستماع لقراءة الفاتحة أوجب .
وإذا ترك الإمام شيئا من حق الصلاة فحق على من خلفه أن يتموا قال علقمة : إن لم يتم الإمام أتممنا . وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن هلال : أقرأ بالحمد يوم الجمعة . قال : وقال آخرون من هؤلاء يجزئه أن يقرأ بالفارسية ويجزئه أن يقرأ بآية : ينقض آخرهم على أولهم بغير كتاب ولا سنة .
وقيل له : من أباح لك الثناء والإمام يقرأ بخبر أو قياس وحظر على غيرك الفرض وهي القراءة ولا خبر عندك ولا اتفاق لأن عدة من أهل المدينة لم يروا الثناء للإمام ولا لغيره : يكبرون ثم يقرءون فتحير عندهم في ريبهم يترددون مع أن هذا صنعه في أشياء من الفرض فجعل الواجب أهون من التطوع . [ ص: 297 ] زعمت أنه إذا لم يقرأ في الركعتين من الظهر أو العصر أو العشاء يجزئه وإذا لم يقرأ في ركعة من أربع من التطوع لم يجزئه .
قلت : وإذا لم يقرأ في ركعة من المغرب أجزأه وإذا لم يقرأ في ركعة من الوتر لم يجزئه فكأنه يريد أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : أما سكتة النبي صلى الله عليه وسلم حين يكبر فقد بين nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة في حديثه المتفق على صحته أنه كان يذكر فيها دعاء الاستفتاح لم يكن سكوتا محضا ; لأجل قراءة المأمومين . وثبت في الصحيح أن عمر كان يكبر ويجهر بدعاء الاستفتاح يعلمه الناس . وأما احتجاجه على من استفتح حال الجهر فهذا فيه نزاع معروف هل يستفتح في حال الجهر ويتعوذ أو يستفتح ولا يتعوذ إلا إذا قرأ أو لا يستفتح حال الجهر ولا يتعوذ فيه ؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد .
لكن الأظهر ما احتج به البخاري فإن الأمر بالإنصات يقتضي الإنصات عن كل ما يمنعه من استماع القراءة من ثناء وقراءة ودعاء كما ينصت للخطبة بل الإنصات للقراءة أوكد . ولكن إذا سكت [ ص: 298 ] الإمام السكتة الأولى للثناء فهنا عند أحمد وأبي حنيفة وغيرهما استفتاح المأموم أولى من قراءة الفاتحة في هذه السكتة ; لأن مقصود القراءة تحصل له باستماعه لقراءة الإمام وأما مقصود الاستفتاح فلا يحصل له إلا باستفتاحه لنفسه ; ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت مستفتحا وعمر كان يجهر بالاستفتاح ليعلمه المأمومين فعلم أنه مشروع للمأموم . ولو اشتغل عنه بالقراءة لفاته الاستفتاح والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون في حال سكوته وهذا مذهب جمهور العلماء لا يستحبون للإمام سكوتا لقراءة المأموم وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة ومالك وغيرهم .
ومن أصحاب أحمد من استحب له السكوت لقراءة المأموم ومنهم من استحب له في حال سكوت الإمام أن يقرأ ولا يستفتح وهو اختيار أبي بكر الدينوري وأبي الفرج ابن الجوزي .
ثم من هؤلاء من يستحب له أن يستفتح في حال سكوته ويقرأ ليجمع بينهما . ومنهم من يستحب له القراءة دون السكوت .
كما أن الذين يكرهون قراءته حال الجهر : منهم من يستحب له [ ص: 299 ] الاستفتاح حال الجهر ومنهم من يكرهه وهو روايتان عن أحمد ومذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما أنه في حال سكوته للاستفتاح يستفتح وهو الأظهر .
وما ذكره البخاري من أن عدة من أهل المدينة لم يروا الاستفتاح كمذهب مالك : هو حجة للجمهور ; لأنهم يقولون الإمام هنا لا سكوت له وحينئذ فإن قرأنا معه خالفنا الكتاب والسنة لكن ما ذكره البخاري حجة على من يستفتح حينئذ فيشتغل بالاستفتاح عن استماع القراءة .
وهؤلاء نظروا إلى أن الإمام يحمل القراءة عن المأموم ولا يحمل عنه الاستفتاح لكن هذا إنما يدل على عدم وجوب القراءة والمأموم مأمور بالاستماع والإنصات فلا يشتغل عن ذلك بثناء كما لا يشتغل عنه بقراءة والقراءة أفضل من الثناء فإن كان الإمام يسكت للثناء وأدركه المأموم أثنى معه وإن كان لا يسكت أو أدرك المأموم وهو يقرأ فهو مأمور بالإنصات والاستماع فلا يعدل عما أمر به .
فإن قيل في وجوب الثناء قولان في مذهب أحمد قيل في وجوب القراءة على المأموم قولان في مذهب أحمد وإذا نهي عن القراءة لاستماع قراءة الإمام فلأن ينهى عن الثناء أولى لقوله : [ ص: 300 ] { فاستمعوا له وأنصتوا } وألا تناقضوا . كما ذكره البخاري .
وأما قول nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : اقرأ بها في نفسك يا فارسي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599376قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين } إلى آخره . فقد يقال أن nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة إنما أمره بالقراءة ; لما في ذلك من الفضيلة المذكورة في حديث القسمة لا لقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=36713من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج } فإنه لو كان صلاة المأموم خداجا إذا لم يقرأ لأمره بذلك ; لأجل ذلك الحديث . ولم يعلل الأمر بحديث القسمة . اللهم إلا أن يقال : ذكره توكيدا أو لأنه لما قسم القراءة قسم الصلاة فدل على أنه لا بد منها في الصلاة إذ لو خلت عنها لم تكن القسمة موجودة . وعلى هذا يبقى الحديثان مدلولهما واحد .
قال البخاري : وروى ابن صالح عن الأصفهاني عن المختار عن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه عن علي " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة " قال : وهذا لم يصح ; لأنه لا يعرف المختار ولا يدري أنه سمع من ابنه ولا أبيه من علي ولا يحتج أهل الحديث بمثله . وحديث الزهري عن عبد الله بن أبي رافع عن علي أولى وأصح .
قلت : حديث الزهري بين في أنه أمره بالقراءة في صلاة المخافتة لا في صلاة الجهر وعلى هذا فيكون إن كان قد قال هذا قاله في صلاة الجهر إذا سمع الإمام فلا منافاة بين القولين . كما تقدم مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما .
قال البخاري : وروى داود بن قيس عن أبي نجاد رجل من ولد سعد عن سعد " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمر " . قال : وهذا مرسل وابن نجاد لم يعرف ولا سمي ولا يجوز لأحد أن يقول في في القارئ خلف الإمام جمرة ; لأن الجمرة من عذاب الله . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=30401لا تعذبوا بعذاب الله } ولا ينبغي لأحد أن يتوهم ذلك على سعد مع إرساله وضعفه . قال : [ ص: 302 ] وروى ابن حبان عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم قال : قال عبد الله " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه تبنا " قال : وهذا مرسل لا يحتج به وخالفه ابن عون عن إبراهيم عن الأسود وقال : رضفا وليس هذا من كلام أهل العلم لوجوه .
والوجه الآخر : أنه لا ينبغي لأحد أن يتمنى أن يملأ أفواه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب وحذيفة ومن ذكرنا رضفا ولا تبنا ولا ترابا .
والوجه الثالث : إذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فليس في [ قول ] الأسود ونحوه حجة قال ابن عباس ومجاهد ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك وقال nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة : " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه سكرا " .
قال البخاري : وروى عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال : " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له " ولا يعرف لهذا [ ص: 303 ] الإسناد سماع بعضهم من بعض ولا يصح مثله . قال : وكان سعيد بن المسيب وعروة والشعبي nindex.php?page=showalam&ids=16523وعبيد الله بن عبد الله ونافع بن جبير وأبو المليح والقاسم بن محمد وأبو مجلز ومكحول ومالك وابن عون وسعيد بن أبي عروبة يرون القراءة . وكان أنس وعبد الله بن يزيد الأنصاري يستحبان [ القراءة ] خلف الإمام .
قلت : قد روى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت الأنصاري عن القراءة مع الإمام . فقال : لا قراءة مع الإمام في شيء . وهذا يتناول القراءة معه في الجهر كما قال الزهري فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يجهر فيه .
وأما في صلاة المخافتة فلا يقال قرأ معه كما لا يقال إن أحد المأمومين يقرأ مع الآخر وكما لا يقال : إنه استفتح معه وتشهد معه وسبح معه في الركوع والسجود .
وكذلك ابن مسعود قد تقدمت الرواية عنه بأنه كان يأمر بإنصات المأموم لقراءة الإمام وكان يقرأ خلف الإمام . وعلى هذا فقوله : إن كان قاله أو قول أصحابه الذين نقلوا عنه كالأسود : [ ص: 304 ] " وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام ملئ فوه رضفا أو تبنا أو ترابا " يتناول من قرأ وهو يسمع الإمام يقرأ فترك ما أمر به من الإنصات والاستماع وهذا هو الذي يتناوله قول سعد إن كان قاله : " وددت أن في فيه جمرا " لا سيما إذا نازع الإمام القراءة بأن يكون الإمام أو من يسمع قراءة الإمام يسمع حسه فيكون ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599378ما لي أنازع القرآن } وقال فيه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=21652علمت أن بعضكم خالجنيها } وكذلك لو قرأ في السر ورفع صوته بحيث يخالج الإمام وينازعه أو يخالج وينازع غيره من المأمومين لكان مسيئا في ذلك .
وقول nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة وغيره : " وددت أنه ملئ فوه سكرا " إذا قرأ حيث يستحب له القراءة لقراءته خلف الإمام في صلاة السر وكذلك ما نقل عن زيد بن ثابت أنه قال : " من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له " يتناول من ترك ما أمر به وفعل ما نهي عنه . فقرأ وهو يسمع قراءة الإمام وفي بطلان صلاة هذا وجهان في مذهب أحمد ومن قال هذا من السلف من صحابي أو تابعي فقد يريد به معنى صحيحا . كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=599379لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده فتحرق ثيابه خير له من أن يجلس على قبر } وتعذيب الإنسان بعذاب في الدنيا أيسر عليه من ركوب [ ص: 305 ] ما نهى الله عنه .
فمن اعتقد أن قراءته حال استماع إمامه معصية لله ورسوله ترك بها ما أمره الله وفعل ما نهى الله عنه جاز أن يقول ; لأن يحصل بفيه شيء يؤذيه فيمنعه عن المعصية خير له من أن يفعل ما نهي عنه كما قد يقال : لمن تكلم بكلمة محرمة : لو كنت أخرس لكان خيرا لك ولا يراد بذلك أنا نحن نعذبه بذلك لكن يراد لو ابتلاه الله بهذا لكان خيرا له من أن يقع في الذنب .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599380عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة } والواحد من السلف قد يذكر ما في الفعل من الوعيد وإن فعله غيره متأولا لقول عائشة " أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب " وليس في هذا تلاعن بلعنة الله ولا بالنار ولا تعذيب بعذاب الله بل فيه تمنى أن يبتلى بما يمنعه عن المعصية . وإن كان فيه أذى له . والعالم قد يذكر الوعيد فيما يراه ذنبا مع علمه بأن المتأول مغفور له لا يناله الوعيد . لكن يذكر ذلك ليبين أن هذا الفعل مقتضي لهذه العقوبة عنده فكيف وهو لم يذكر إلا ما يمنعه عما يراه ذنبا .
[ ص: 306 ] وكذلك قول من قال : " وددت أنه ملئ فوه سكرا " يتناول من فعل ما أمر الله به من القراءة ومع هذا فمن فعل القراءة المنهي عنها معتقدا أنه مأمور به أو ترك المأمور به معتقدا أنه منهي عنه كان مثابا على اجتهاده وخطؤه مغفور له وإن كان العالم يقول في الفعل الذي يرى أنه واجب أو محرم ما يناسب الوجوب والتحريم وليس في ذلك تمنى أن يملأ أفواه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من المؤمنين رضفا ولا تبنا ; لأن أولئك عامة ما نقل عنهم من القراءة خلف الإمام في السر وذم الذامين لمن يقرأ في الجهر . فلم يتوارد الذم والفعل وإن قدر أنهما تواردا من السلف فهو كتواردهما من الخلف .
وقد ثبت عن علي أنه حرق بالنار المرتدين وكذلك الصديق روي عنه أنه حرق فإذا جاز هذا على الخلاف مع ثبوت النص بخلافه ; لأجل التأويل لم يمتنع أن يغلط بعضهم فيما يراه ذنبا ومعصية بمثل هذا الكلام .
ومعلوم أن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم كما أن القراءة خلف الإمام في السر متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم بل ونفي وجوب القراءة على المأموم مطلقا مما هو معروف عنهم .
وقد روى البخاري في هذا الكتاب : حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=16467عبد الله بن منير سمع يزيد بن هارون ثنا زياد وهو الجصاص ثنا الحسن حدثني عمران بن حصين قال : { لا تزكوا صلاة مسلم إلا بطهور وركوع وسجود وراء الإمام وإن كان وحده بفاتحة وآيتين أو ثلاث } . فلم يوجب الفاتحة عليه إذا كان إماما كما أوجب عليه الطهارة والركوع والسجود بل أوجبها مع الانفراد .
وقال شيخ الإسلام فصل الناس في القراءة خلف الإمام متنازعون في الوجوب والاستحباب : فقيل تكره مطلقا كما هو قول أبي حنيفة وغيره .
وقيل : بل تجب بالفاتحة مطلقا كما هو قول الشافعي في الجديد وغيره . وهو قول ابن حزم وزاد لا تشرع بغير ذلك بحال .
وقيل : بل تجب بها في صلاة السر فقط كقوله القديم . nindex.php?page=showalam&ids=12251والإمام أحمد ذكر إجماع الناس على أنها لا تجب في صلاة الجهر .
والجمهور على أنها لا تجب ولا تكره مطلقا بل تستحب القراءة في صلاة السر وفي سكتات الإمام بالفاتحة وغيرها كما هو مذهب مالك وأحمد وغيرهما . وأما إذا لم يكن للإمام سكتات فقرأ فيها . فهل تكره القراءة أم تستحب بالفاتحة ؟ فيه قولان . فمذهب أحمد وجمهور أصحابه أنها تكره بالفاتحة وغيرها واختار طائفة أنها تستحب [ ص: 310 ] حينئذ بالفاتحة وهو اختيار جدي وهو قول الليث والأوزاعي . وحجة هذا القول شيئان : أحدهما : أن في قراءتها خروجا من الاختلاف في وجوبها فإنه إذا لم يقرأ ففي صحة صلاته خلاف بخلاف ما إذا قرأ فإنما يفوته الاستماع حين قراءتها فقط .
وقيل : بل هي واجبة والنهي عن القراءة بغيرها حال الجهر فلا يفيد النهي مطلقا .
وقيل : بل يفيد استثناء قراءتها من النهي والاستثناء من النهي [ ص: 311 ] لا يفيد الوجوب . وقوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599384فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } تعليل بوجوب قراءتها في الصلاة . فإن كونها ركنا اقتضى أن تستثنى في هذه الحال للمأموم وإن لم تكن مفروضة عليه كفرائض الكفايات إذا قام بها طائفة سقط بها الفرض ثم قام بها آخرون فإنه يقال : هي فرض على الكفاية وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير ; ولهذا يقال : الجنازة تفعل في أوقات النهي لأنها فرض وإن فعلت مرة ثانية في أصح الوجهين ; لأنها تفعل فرضا في حق هؤلاء وإن كان لهم إسقاطها بفعل الغير .
وقراءة الفاتحة هي ركن وللمأموم أن يجتزئ بقراءة إمامه وله أن يسقطها بنفسه . وهذا كما في صدقة الفطر التي يتحملها الإنسان عن غيره كصدقة الزوجة فإنها هل تجب على الزوج ابتداء أو تحملا ؟ على وجهين : أصحهما : أنها تحمل فلو أخرجتها الزوجة لجاز فتكون الزوجة مخيرة بين أن تخرجها وبين أن تلزم الزوج بإخراجها فلو أخرجها الزوج ثم أخرجتها هي ولم تعتد بذلك الإخراج لكان ، لكن الإمام لا بد له من قراءة وهو يتحمل القراءة عن المأموم . فالقراءة الواحدة تجزي عن إمامه وعنه وإن قرأ هو عن نفسه فحسن كسائر فروض الكفايات لكن هذا فرض عين على الأئمة .
ومن أجاب عن هذا بأن الآية مخصوصة بغير حال قراءة الفاتحة فجوابه من وجوه : أحدها : ما ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من إجماع الناس على أنها نزلت في الصلاة وفي الخطبة وكذلك قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=10331وإذا قرأ فأنصتوا } " .
وأيضا : فالمستمع للفاتحة هو كالقارئ ; ولهذا يؤمن على دعائها . وقال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599385إذا أمن القارئ فأمنوا فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه } . وأما الإنصات المأمور به حال قراءة الإمام ; فهو من باب المتابعة للإمام فهو فاعل للاتباع المأمور به أي بمقصود القراءة وإذا قرأ الفاتحة ترك المتابعة المأمور بها بالإنصات وترك الإنصات المأمور به في القرآن ولم يعتض عن هذين الأمرين إلا بقراءة الفاتحة التي حصل المقصود منها باستماعه قراءة الإمام وتأمينه عليها . وكان قد ترك الإنصات المأمور به إلى غير بدل ففاته هذا الواجب ولم يعتض عنه إلا ما حصل مقصوده بدونه . ومعلوم أنه إذا دار [ ص: 313 ] الأمر بين تفويت أحد أمرين على وجه يتضمن تحصيل أحدهما كان تحصيل ما يفوت إلى غير بدل أولى من تحصيل ما يقوم بدله مقامه .
وأيضا فلو لم يكن المستمع كالقارئ لكان المستحب حال جهره بغير الفاتحة أن يقرأ المأموم فلما اتفق المسلمون على أن المشروع للمأموم حال سماع القراءة المستحبة أن يستمع ولا يقرأ : علم أنه يحصل له مقصود القراءة بالاستماع وإلا كان المشروع في حقه التلاوة بل أوجبوا عليه الإنصات حال القراءة المستحبة فالإنصات حال القراءة الواجبة أولى . وأما الحديث فقد طعن فيه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره ولفظ الحديث الذي في الصحيحين ليس فيه إلا قول مطلق .
وأيضا فإن صح حمل على الإمام الذي له سكتات يقرر ذلك أن لفظه ليس فيه عموم فإنه قد روي أنه قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599386إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بأم الكتاب } وهذا استثناء من النهي لهم عن القراءة خلفه فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان كما روى ذلك سمرة nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب . كما ثبت سكوته بين التكبير والقراءة بحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين والدعاء الذي روى nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة في هذا السكوت يمكن فيه قراءة الفاتحة فكيف إذا قرأ بعضها في سكتة وبعضها في سكتة أخرى . فحينئذ لا يكون في قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599387إذا كنتم ورائي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن } دليل على أنه يقرأ بها في حال الجهر [ ص: 314 ] فإن هذا استثناء من النهي فلا يفيد إلا الإذن المطلق بمعنى أنهم ليسوا منهيين عن القراءة بها لا يمكن قراءتها في حال سكتاته .
يؤيد هذا أن جمهور المنازعين يسلمون أنه في صلاة السر يقرأ بالفاتحة وغيرها ويسلمون أنه إذا أمكن أن يقرأ بما زاد على الفاتحة في سكتات الإمام قرأ وأن البعيد الذي لا يسمع يقرأ بالفاتحة وبما زاد . فحينئذ يكون هذا النهي خاصا فيمن صلى خلفه في صلاة الجهر . واستثناء قراءة الفاتحة لإمكان قراءتها في سكتاته .
ففي هذا الحديث بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم : هل يقرءون وراءه بشيء أم لا ؟ ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولو بين ذلك لهم لفعله عامتهم لم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم ولم يكن يحتاج إلى استفهامه . فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم قراءة خلفه حال الجهر ثم إنه لما علم أنهم يقرءون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه .
[ ص: 316 ] وهذا يفعله كثير من المؤتمين الذين يرون قراءة الفاتحة حال جهر الإمام واجبة أو مستحبة فيثقلون القراءة على الإمام ويلبسونها عليه ويلبسون على من يقاربهم الإصغاء والاستماع الذي أمروا به فيفوتون مقصود جهر الإمام ومقصود استماع المأموم .
ومعلوم أن مثل هذا يكون مكروها ثم إذا فرض أن جميع المأمومين يقرءون خلفه فنفس جهره لا لمن يستمع فلا يكون فيه فائدة لقوله " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599391إذا أمن فأمنوا } ويكونون قد أمنوا على قرآن لم يستمعوه ولا استمعه أحد منهم إلا أن يقال إن السكوت يجب على الإمام بقدر ما يقرءون وهم لا يوجبون السكوت الذي يسع قدر القراءة وإنما يستحبونه ، فعلم أن استحباب السكوت يناسب استحباب القراءة فيه ولو كانت القراءة على المأموم واجبة لوجب على الإمام أن يسكت بقدرها سكوتا فيه ذكر أو سكوتا محضا ولا أعلم أحدا أوجب السكوت لأجل قراءة المأموم .
وعن ابن أكيمة الليثي عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة { nindex.php?page=hadith&LINKID=5519أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : هل قرأ ؟ يعني أحدا منا آنفا قال رجل : نعم يا رسول الله قال : إني أقول : ما لي أنازع القرآن } فانتهى الناس عن القراءة معه صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال حديث حسن . قال أبو داود سمعت محمد بن يحيى بن فارس قال قوله : فانتهى الناس عن القراءة إلى آخره . من قول الزهري . وروى البخاري نحو ذلك فقد قال البيهقي : ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث [ ص: 318 ] وحده ولم يحدث عنه غير الزهري وجواب ذلك من وجوه : أحدها : أنه قد قال فيه أبو حاتم الرازي : صحيح الحديث حديثه مقبول وتزكية أبي حاتم هو في الغاية . وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال : روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن ابنه عمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة بن عمر .
الثالث : أن حديث ابن أكيمة رواه أهل السنن الأربعة فإذا كان هذا الحديث هو مسلم صحة متنه وأن الحديث الذي احتج به والذي احتج به منازعوه قد اتفقا على هذه الرواية كان ما اتفقا عليه معمولا به بالاتفاق وما في حديثه من الزيادة قد انفرد بها من ذلك الطريق ولم يروها إلا بعض أهل السنن وطعن فيها الأئمة وكانت الزيادة المختلف فيها أحق بالقدح في الأصل المتفق على روايته .
وأما قوله : فانتهى الناس . فهذا إذا كان من كلام الزهري كان تابعا فإن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله [ ص: 319 ] صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان فجزم الزهري بهذا من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعدما كانوا يفعلونه وهذا يؤيد ما تقدم ذكره ويوافق قوله : ( { nindex.php?page=hadith&LINKID=10331وإذا قرأ فأنصتوا } ولم يستثن فاتحة ولا غيرها . وتحقق أن تلك الزيادة إما ضعيفة الأصل أو لم يحفظ راويها لفظها وأن معناها كان مما يوافق سائر الروايات وإلا فلا يمكن تغيير الأصول الكلية الثابتة في الكتاب والسنة في هذا الأمر المحتمل . والله أعلم .
وفيه أيضا : دليل على أنه لم يأمرهم بالقراءة خلفه في السر لا بالفاتحة ولا غيرها . إذ لو كان أمرهم بذلك لم ينكر القراءة خلفه وهو لم ينكر قراءة سورة معينة بل قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599394أيكم قرأ أو أيكم القارئ ؟ } بل من المعلوم في العادة أن القارئ خلفه لم يقرأ بسبح إلا بعد الفاتحة فهذا يدل على أنه لا تجب القراءة على المأموم في السر لا بالفاتحة ولا غيرها .
كما يدل على ذلك حديث أبي بكر لما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة حين ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف ثم رجع يقرأ من حيث انتهى أبو بكر وكما في حديث أبي بكرة الذي رواه البخاري في صحيحه لما ركع دون الصف ثم دخل في الصلاة وقال له النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=19755زادك الله حرصا ولا تعد } ولو كانت قراءة الفاتحة فرضا على المأموم مطلقا لم تسقط بسبق ولا جهل . كما أن الأعرابي المسيء في صلاته قال له : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=63881ارجع فصل فإنك لم تصل } وأمر الذي صلى خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة .
ودليل ذلك اتفاقهم على أنه مأمور حال القراءة المستحبة بالإنصات إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب وأنه مكروه لهم القراءة حال الاستماع فلولا أن الاستماع كالقراءة بل وأفضل لم يكن مأمورا بالإنصات منهيا عن القراءة فإن الله لا يأمر بالأدنى وينهى عن الأفضل .
بل إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل المأموم يخلط عليه ويلبس ويخالج الإمام فكيف بالإمام في حال جهره مع المأموم والمأموم يلبس على المأموم حال الجهر ; لأنه إذا جهر وحده كان أدنى حس يلبس عليه ويثقل عليه القراءة فإن لم تكن الأصوات هادئة هدوءا تاما وإلا ثقلت عليه القراءة ولبس عليه وهذا أمر محسوس .
ولهذا تجد الذين يشهدون سماع القصائد سماع المكاء والتصدية يشوشون بأدنى حس وينكرون على من يشوش . وكذلك من قرأ القرآن خارج الصلاة فإنه يشوش عليه بأدنى حس فكيف من يقرأ في الصلاة ولو قرأ قارئ خارج الصلاة على جماعة وهم لا ينصتون له بل [ ص: 323 ] يقرءون لأنفسهم لتشوش عليه . فقد تبين بالأدلة السمعية والقياسية القول المعتدل في هذه المسألة والله أعلم .
والآثار المروية عن الصحابة في هذا الباب تبين الصواب فعن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام . فقال : " لا قراءة مع الإمام في شيء " رواه مسلم . ومعلوم أن زيد بن ثابت من أعلم الصحابة بالسنة وهو عالم أهل المدينة فلو كانت القراءة بالفاتحة أو غيرها حال الجهر مشروعة لم يقل لا قراءة مع الإمام في شيء .
وقوله : " مع الإمام " إنما يتناول من قرأ معه حال الجهر . فأما حال المخافتة فلا هذا يقرأ مع هذا ولا هذا مع هذا وكلام زيد هذا ينفي الإيجاب والاستحباب ويثبت النهي والكراهة .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=17283وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل ; إلا وراء الإمام . رواه مالك في الموطإ . وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة وهو من أعيان تلك الطبقة وروى مالك أيضا عن نافع عن nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر كان إذا سئل : هل يقرأ أحد خلف الإمام ؟ يقول : إذا صلى أحدكم [ ص: 324 ] خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ . قال : وكان nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر لا يقرأ خلف الإمام وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها .
ولو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان هذا من العلم العام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولو بين ذلك لهم لكانوا يعملون به عملا عاما ولكان ذلك في الصحابة لم يخف مثل هذا الواجب على ابن عمر حتى يتركه مع كونه واجبا عام الوجوب على عامة المصلين قد بين بيانا عاما بخلاف ما يكون مستحبا فإن هذا قد يخفى .
وروى البيهقي عن أبي وائل أن رجلا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام فقال : أنصت للقرآن فإن في الصلاة لشغلا وسيكفيك ذاك الإمام . فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام ; لأجل الإنصات . والاشتغال به لم ينهه إذا لم يكن مستمعا كما في صلاة السر وحال السكتات . فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء . وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين ومبين لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم .
[ ص: 325 ] وحديث جابر الذي تقدم قد روي مرفوعا ومسندا ومرسلا فأما الموقوف على جابر فثابت بلا نزاع وكذلك المرسل ثابت بلا نزاع من رواية الأئمة عن nindex.php?page=showalam&ids=16439عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599398من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة } وأما المسند فتكلم فيه . رواه ابن ماجه من حديث جابر الجعفي عن جابر بن عبد الله . وجابر الجعفي كذبه أيوب وزائدة ووثقه الثوري وسعيد وقال ابن معين : لا يكتب حديثه ولا كرامة ليس بشيء . وقال النسائي متروك . وروى أبو داود عن أحمد أنه قال : لم يتكلم في جابر لحديثه إنما تكلم فيه لرأيه . قال أبو داود ليس عندي بالقوي من حديثه وقوله " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599399فقراءة الإمام له قراءة } لا تدل على أنه لا يستحب للمأموم القراءة كما احتج بذلك من احتج به من الكوفيين فإن قوله : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=599400قراءة الإمام له قراءة } دليل على أن له أن يجتزئ بذلك وأن الواجب يسقط عنه بذلك لا يدل على أنه ليس له أن يقرأ كما في مواضع كثيرة وله أن يسقط الواجب بفعل غيره وله أن يفعله هو بنفسه . وكذلك المستحب . وأقصى ما يقدر أن يكون هو كأنه قد قرأ .
منهم : من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم : كأصحاب أبي حنيفة .
ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي وقول طائفة معه .
ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر والبعيد الذي لا يسمع الإمام . وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه ; إقامة للاستماع مقام التلاوة . وهذا قول الجمهور : كمالك وأحمد وغيرهم [ ص: 328 ] من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار . وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث .
وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم : هل هي مبنية على صلاة الإمام ؟ أم كل واحد منهما يصلي لنفسه ؟ كما تقدم التنبيه عليه . فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى أنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام . وأصل الشافعي : أن كل رجل يصلي لنفسه لا يقوم مقامه لا في فرض ولا سنة ; ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك . وأما مالك وأحمد : فإنها مبنية عليها من وجه دون وجه . كما ذكرناه من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندهما سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه النصوص الصحيحة وهي مبنية عليها . فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة .