صفحة جزء
[ ص: 20 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما . وبعد : فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله وإخلاص الوجه والعمل له ، عبادة واستعانة قال الله تعالى : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } الآية .

وقال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } . وقال تعالى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } . وقال تعالى في الآية الأخرى : { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله } . وقال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } .

وقال تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } . وقال تعالى : { عليه توكلت وإليه أنيب } . وقال تعالى : { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } .

وقال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } . وقال تعالى : { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } الآية . [ ص: 21 ]

وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقال تعالى : { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } وقال تعالى : { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا } { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما } الآية .

وقال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } الآية . ونظائر هذا في القرآن كثير ، وكذلك في الأحاديث ، وكذلك في إجماع الأمة لا سيما أهل العلم والإيمان منهم ، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع .

ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة . وذلك أن العبد بل كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة ; والمضرة هي من جنس الألم والعذاب ; فلا بد له من أمرين : - أحدهما : هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به . والثاني : هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه .

وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء : - أحدها : أمر هو محبوب مطلوب الوجود . [ ص: 22 ] والثاني : أمر مكروه مبغض مطلوب العدم . والثالث : الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب . والرابع : الوسيلة إلى دفع المكروه ، فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها ; وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر . إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه : - أحدها : أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب ، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه ، وهو المعين على دفع المكروه ; فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه ، وهذا معنى قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب ; لكن على أكمل الوجوه ، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب ; فالأول من معنى الألوهية .

والثاني من معنى الربوبية ; إذ الإله : هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب : هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها ; وكذلك قوله تعالى : { عليه توكلت وإليه أنيب } .

وقوله : { فاعبده وتوكل عليه } . وقوله : { عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . وقوله تعالى { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده } . وقوله تعالى : { عليه توكلت وإليه متاب } وقوله : { وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين .

[ ص: 23 ] الوجه الثاني : أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم ; وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه ; ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به . وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم ; فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم ; وبذلك يصيرون عاملين متحركين ، ولا صلاح لهم ولا فلاح ; ولا نعيم ولا لذة ; بدون ذلك بحال . بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات ، وكان التوحيد بقول : لا إله إلا الله ; رأس الأمر .

فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق ، وقرره أهل الكلام ; فلا يكفي وحده ، بل هو من الحجة عليهم ، وهذا معنى ما يروى : { يا ابن آدم خلقت كل شيء لك ، وخلقتك لي ، فبحقي عليك أن لا تشتغل بما خلقته لك ، عما خلقتك له } . واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أتدري ما حق الله على عباده ؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حقهم أن لا يعذبهم } . [ ص: 24 ] وهو يحب ذلك ، ويرضى به ; ويرضى عن أهله ، ويفرح بتوبة من عاد إليه ; كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه ; وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع .

فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ، ويتنعم بالتوجه إليه ; إلا الله سبحانه ; ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون } فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقا ; إذ الله لا سمي له ولا مثل له ; فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها ، هذا من جهة الإلهية .

وأما من جهة الربوبية فشيء آخر ; كما نقرره في موضعه . واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ، ليس له نظير فيقاس به ; لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب ; وبينهما فروق كثيرة . فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو : فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره : وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بلقائه .

ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ، ومن شخص إلى شخص ، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له ، بل قد [ ص: 25 ] يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ، ويضره ذلك .

وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت ، وأينما كان فهو معه ; ولهذا قال إمامنا ( إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم { لا أحب الآفلين } . وكان أعظم آية في القرآن الكريم : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } . وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر ، وبينا أنه الدائم الباقي الذي لا يزول ولا يعدم ، ولا يفنى بوجه من الوجوه .

واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين : أحدهما : على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان ، وكما دل عليه القرآن ; لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم : أن عبادته تكليف ومشقة . وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار ; أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم ; فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس - والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة ، كما قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب } الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة : { أجرك على قدر نصبك } - فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي ، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها ، وهذا يفسر في موضعه .

ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة ; وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي ; كقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . [ ص: 26 ] { لا تكلف إلا نفسك } { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } أي وإن وقع في الأمر تكليف ; فلا يكلف إلا قدر الوسع ، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفا ، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب ; ولذات الأرواح وكمال النعيم ، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه ، وذكره وتوجه الوجه إليه ، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب ، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدا .

قال الله تعالى : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } فهذا أصل . ( الأصل الثاني : النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق : من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك ، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى ، كما في الدعاء المأثور : { اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة } . رواه النسائي وغيره وفي صحيح " مسلم " وغيره عن " صهيب " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة ; إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ألم يبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار قال : فيكشف الحجاب ; فينظرون إليه - سبحانه . فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وهو الزيادة } .

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ; وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره . فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب ، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له ، وتنعمه به أعظم . [ ص: 27 ]

وروي أن يوم الجمعة يوم المزيد ، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة ، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ، قال الله تعالى في حق الكفار : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } { ثم إنهم لصالو الجحيم } . فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب . ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات ; ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى .

وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة ; وعليهما أهل العلم والإيمان ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية العارفون ; وعليهما أهل السنة والجماعة ; وعوام الأمة ; وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها . وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة ; وبالذوق والوجد أخرى - إذا أنكر اللذة - فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها . وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة ; وهي الأقيسة العقلية .

الوجه الثالث : أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر ; ولا عطاء ولا منع ; ولا هدى ولا ضلال ; ولا نصر ولا خذلان ; ولا خفض ولا رفع ; ولا عز ولا ذل ; بل ربه هو الذي خلقه ورزقه ; وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه ; فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره ; وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه ; وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله ; وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول ; ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول ; لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن ; وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول . فهذا الوجه يقتضي ; التوكل على الله والاستعانة به . ودعاءه . ومسألته ، دون ما سواه .

ويقتضي أيضا محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده ، وإسباغ [ ص: 28 ] نعمه عليه ; وحاجة العبد إليه في هذه النعم ، ولكن إذا عبدوه وأحبوه ; وتوكلوا عليه من هذا الوجه ; دخلوا في الوجه الأول ; ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق ; فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا ; ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه .

والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ، ومن ذكر نعمائه عليهم ; ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات ، وليس عند المخلوق شيء من هذا ; فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه . الوجه الرابع : إن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه ; إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله ; فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ; ضره وأهلكه ; وكذلك من النكاح واللباس ; وإن أحب شيئا حبا تاما بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه ; أو يفارقه . وفي الأثر المأثور : { أحبب ما شئت فإنك مفارقه . واعمل ما شئت فإنك ملاقيه . وكن كما شئت فكما تدين تدان } . واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه ; ويكون ذلك سببا لعذابه ; ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ; يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته . يقول : أنا كنزك . أنا مالك . وكذلك نظائر هذا في الحديث : يقول الله يوم القيامة : { يا ابن آدم ; أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا ؟ } وأصل التولي [ ص: 29 ] الحب ; فكل من أحب شيئا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه ; وأصلاه جهنم وساءت مصيرا ; فمن أحب شيئا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد ; أو فقد ; فإن فقد عذب بالفراق وتألم ; وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة ; وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء ; وكل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته ; فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله ; فإنه كمال وجمال للعبد ; وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ; إلا ذكر الله وما والاه } . رواه الترمذي ; وغيره .

الوجه الخامس : أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته ; فإنه يخذل من تلك الجهة ; وهو أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء ; ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ; ولا استنصر بغير الله إلا خذل . وقد قال الله تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا } { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا } . وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق ; فلما قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته .

وكان في عبادة ما سواه ; والاستعانة بما سواه ; مضرته وهلاكه وفساده . الوجه السادس : إن الله سبحانه غني . حميد . كريم . واجد . رحيم ، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه ; يريد به الخير ويكشف عنه الضر ; لا لجلب منفعة إليه من العبد ; ولا لدفع مضرة ; بل رحمة وإحسانا ; والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم ; فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ; ويجلبوا [ ص: 30 ] له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما . وإن كان ذلك أيضا من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله .

فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم ; وسماع كلامهم ; ونحو ذلك . وكذلك من أحب إنسانا لشجاعته أو رياسته ; أو جماله أو كرمه ; فهو يجب أن ينال حظه من تلك المحبة ; ولولا التذاذه بها لما أحبه ; وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال ; أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو - ولو بالدعاء أو الثناء - فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله ; فأجناد الملوك ; وعبيد المالك ; وأجراء الصانع ; وأعوان الرئيس ; كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به ; لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم ; إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى ; فيدخل ذلك في الجهة الدينية ; أو يكون فيها طبع عدل ; وإحسان من باب المكافأة والرحمة ; وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه ; وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه ; وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ; ورفع بعضهم فوق بعض درجات ; : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا . إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك . بالقصد الأول ; بل إنما يقصد منفعته بك وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل ; فإذا دعوته ; فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه .

والرب سبحانه يريد لك ; ولمنفعتك بك ; لا لينتفع بك . وذلك منفعة عليك بلا مضرة . فتدبر هذا ; فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو [ ص: 31 ] تطلب منه منفعة لك ، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول ; كما أنه لا يقدر عليه . ولا يحملنك هذا على جفوة الناس ; وترك الإحسان إليهم ; واحتمال الأذى منهم ; بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم ; وكما لا تخفهم فلا ترجهم ; وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله ; وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله ; وكن ممن قال الله فيه : { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } .

وقال فيه : { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } . الوجه السابع : أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك ; فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها . الوجه الثامن : إنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض ; فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله ; ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك . الوجه التاسع : أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك ; ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك ; فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله ; ولا يضرونك إلا بإذن الله ; فلا تعلق بهم رجاءك . قال الله تعالى : { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور } .

والنصر يتضمن دفع الضرر ; والرزق يتضمن حصول المنفعة [ ص: 32 ] قال الله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت } { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وقال تعالى : { أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } وقال الخليل عليه السلام { رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات } الآية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم } بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية