فلا بد من تصديقه فيما أخبر ; والانقياد له فيما أمر .
وأما التفصيل فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده ; من أن الرسول أخبر به وأمر به وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ; ولم يمكنه العلم بذلك ; فهو لا يعاقب على ترك الإقرار به مفصلا وهو داخل في إقراره [ ص: 328 ] بالمجمل العام ثم إن قال خلاف ذلك متأولا كان مخطئا يغفر له خطؤه ; إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد ما لا يجب على آحاد العامة ، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل .
وأما ما علم ثبوته بمجرد القياس العقلي دون الرسالة ; فهذا لا يعاقب إن لم يعتقده .
وأما قوله : ما الذي يجب عليه علمه ؟ فهذا أيضا يتنوع فإنه يجب على كل مكلف أن يعلم ما أمر الله به فيعلم ما أمر بالإيمان به ؟ وما أمر بعلمه ; بحيث لو كان له ما تجب فيه الزكاة لوجب عليه تعلم علم الزكاة ، ولو كان له ما يحج به لوجب عليه تعلم علم الحج وكذلك أمثال ذلك .
ويجب على عموم الأمة علم جميع ما جاء به الرسول بحيث لا يضيع من العلم الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم أمته شيء وهو ما دل [ ص: 329 ] عليه الكتاب والسنة لكن القدر الزائد على ما يحتاج إليه المعين فرض على الكفاية : إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين .
وأما " العلم المرغب فيه جملة " فهو العلم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته لكن يرغب كل شخص في العلم الذي هو إليه أحوج ; وهو له أنفع وهذا يتنوع ; فرغبة عموم الناس في معرفة الواجبات والمستحبات من الأعمال والوعد والوعيد أنفع لهم .
وكل شخص منهم يرغب في كل ما يحتاج إليه من ذلك ومن وقعت في قلبه شبهة فقد تكون رغبته في عمل ينافيها أنفع من غير ذلك .
وأما " اليقين " فهو طمأنينة القلب ، واستقرار العلم فيه وهو [ معنى ] ما يقولون : " ماء يقن " إذا استقر عن الحركة ، وضد اليقين الريب .
لا يريبه أحد } ثم اليقين ينتظم منه أمران : علم القلب ، وعمل القلب .
فإن العبد قد يعلم علما جازما بأمر ; ومع هذا فيكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم كعلم العبد أن الله رب كل شيء ومليكه ; ولا خالق غيره ; وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ; فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك ; إما لغفلة القلب عن هذا العلم والغفلة هي ضد العلم التام ، وإن لم تكن ضدا لأصل العلم ، وإما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك .
وأما قول طائفة من المتفلسفة ومن تبعهم من المتكلمة والمتصوفة : أن الضمير عائد إلى الله ; وأن المراد ذكر طريق معرفته بالاستدلال بالعقل ; فتفسير الآية بذلك خطأ من وجوه كثيرة وهو مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها .
فبين سبحانه أنه يرى الآيات المشهودة ليبين صدق الآيات المسموعة مع أن شهادته بالآيات المسموعة كافية لأنه سبحانه لم يدل عباده بالقرآن بمجرد الخبر - كما يظنه طوائف من أهل الكلام يظنون أن دلالة القرآن إنما هو بطريق الخبر ، والخبر موقوف على العلم بصدق المخبر الذي هو الرسول ، والعلم بصدقه موقوف على إثبات الصانع ; والعلم بما يجب ويجوز ويمتنع عليه ; والعلم بجواز بعثة الرسل ; والعلم بالآيات الدالة على صدقهم ويسمون هذه الأصول العقليات ; لأن السمع عندهم موقوف عليها وهذا غلط عظيم وهو من أعظم ضلال طوائف من أهل الكلام والبدع ، فإن الله سبحانه بين في كتابه كل ما يحتاج إليه في أصول الدين قرر فيه [ ص: 332 ] التوحيد ; والنبوة ; والمعاد بالبراهين التي لا ينتهي إلى تحقيقها نظر ; خلاف المتكلمين من المسلمين والفلاسفة وأتباعهم ، واحتج فيه بالأمثال الصمدية ; التي هي المقاييس العقلية المفيدة لليقين وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع .
وأما الآيات المشهودة فإن ما يشهد وما يعلم بالتواتر : من عقوبات مكذبي الرسل ومن عصاهم ، ومن نصر الرسل وأتباعهم على الوجه الذي وقع وما علم من إكرام الله تعالى لأهل طاعته وجعل العاقبة له وانتقامه من أهل معصيته وجعل الدائرة عليهم : فيه عبرة تبين أمره ونهيه ; ووعده ووعيده ; وغير ذلك مما يوافق القرآن .
وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان : أحدهما : العلم به نفسه ; وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام وما دلت عليه أسماؤه الحسنى .
وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة فإنه لا بد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته ; ويعاقب على معصيته ; كما شهد به القرآن والعيان وهذا معنى قول أبي حيان التيمي - أحد أتباع التابعين - العلماء ثلاثة : عالم بالله ليس عالما بأمر الله ، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله ، وعالم بالله وبأمر الله .
فالعالم بالله الذي يخشى الله والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام .
وقال رجل للشعبي : أيها العالم فقال : إنما العالم من يخشى الله .
وقال - nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا .
وقريب من ذلك قول بعض التابعين في صفة أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب - رضي الله عنه حيث قال : إن كان الله في صدري لعظيما وإن كنت بذات الله لعليما أراد بذلك أحكام الله ، فإن لفظ الذات في لغتهم لم يكن كلفظ الذات في اصطلاح المتأخرين بل يراد به ما يضاف إلى الله كما قال خبيب رضي الله عنه .
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فإن ذات تأنيث ( ذو ) وهو يستعمل مضافا يتوصل به إلى الوصف بالأجناس فإذا كان الموصوف مذكرا قيل ذو كذا ; وإن كان مؤنثا قيل ذات كذا كما يقال ذات سوار .
فإن قيل أصيب فلان في ذات الله فالمعنى في جهته ووجهته : أي فيما أمر به وأحبه ; ولأجله .
ثم إن الصفات لما كانت مضافة إلى النفس فيقال في النفس أيضا إنها ذات علم وقدرة وكلام ونحو ذلك حذفوا الإضافة وعرفوها فقالوا : الذات الموصوفة [ ص: 335 ] أي النفس الموصوفة فإذا قال هؤلاء المؤكدون " الذات " فإنما يعنون به النفس الحقيقية ; التي لها وصف ولها صفات .
والصفة والوصف تارة يراد به الكلام الذي يوصف به الموصوف ; كقول الصحابي في { قل هو الله أحد } أحبها لأنها صفة الرحمن وتارة يراد به المعاني التي دل عليها الكلام : كالعلم والقدرة .
والجهمية والمعتزلة وغيرهم تنكر هذه وتقول : إنما الصفات مجرد العبارة التي يعبر بها عن الموصوف .
والكلابية ومن اتبعهم من الصفاتية قد يفرقون بين الصفة والوصف فيجعلون الوصف هو القول ; والصفة المعنى القائم بالموصوف .
وأما جماهير الناس فيعلمون أن كل واحد من لفظ الصفة والوصف مصدر في الأصل ; كالوعد والعدة ; والوزن والزنة ; وأنه يراد به تارة هذا ; وتارة هذا .
ولما كان أولئك الجهمية ينفون أن يكون لله وصف قائم به : علم أو قدرة ; أو إرادة أو كلام - وقد أثبتها المسلمون - صاروا يقولون : هؤلاء أثبتوا صفات زائدة على الذات .
وقد صار طائفة من مناظريهم الصفاتية يوافقونهم على هذا الإطلاق ويقولون : الصفات زائدة على الذات التي وصفوا - لها صفات ووصف - فيشعرون الناس أن هناك ذاتا متميزة عن الصفات وأن لها صفات متميزة عن الذات .
ويشنع نفاة الصفات بشناعات ليس هذا موضعها وقد بينا فسادها في غير هذا الموضع .
[ ص: 336 ] والتحقيق أن الذات الموصوفة لا تنفك عن الصفات أصلا ولا يمكن وجود ذات خالية عن الصفات .
فدعوى المدعي وجود حي عليم قدير بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ; كدعوى قدرة وعلم وحياة لا يكون الموصوف بها حيا عليما قديرا بل دعوى شيء موجود قائم بنفسه قديم أو محدث عري عن جميع الصفات ممتنع في صريح العقل .
ولكن الجهمية المعتزلة وغيرهم ; لما أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات صار مناظرهم يقول : أنا أثبت الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات ; أي لا أقتصر على مجرد إثبات ذات بلا صفات .
ولم يعن بذلك أنه في الخارج ذات ثابتة بنفسها ; ولا مع ذلك صفات هي زائدة على هذه الذات متميزة عن الذات ولهذا كان من الناس من يقول : الصفات غير الذات .
كما يقوله المعتزلة ; والكرامية ; ثم المعتزلة تنفيها : والكرامية تثبتها .
ومنهم من يقول : الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره .
كما يقوله طوائف من الصفاتية كأبي الحسن الأشعري وغيره .
ومنهم من يقول كما قالت الأئمة : لا نقول الصفة هي الموصوف ; ولا نقول : هي غيره ; لأنا لا نقول : لا هي هو ; ولا هي غيره فإن لفظ الغير فيه إجمال قد يراد به المباين للشيء أو ما قارن أحدهما الآخر ; وما قاربه بوجود أو زمان أو مكان ; ويراد بالغير : أن ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر .
[ ص: 337 ] وعلى الأول فليست الصفة غير الموصوف ولا بعض الجملة غيرها .
وعلى الثاني فالصفة غير الموصوف وبعض الجملة غيرها .
فامتنع السلف والأئمة من إطلاق لفظ الغير على الصفة نفيا أو إثباتا ; لما في ذلك من الإجمال والتلبيس ; حيث صار الجهمي يقول : القرآن هو الله أو غير الله ، فتارة يعارضونه بعلمه فيقولون : علم الله هو الله أو غيره ; إن كان ممن يثبت العلم ; أو لا يمكنه نفيه .
وتارة يحلون الشبهة ويثبتون خطأ الإطلاقين : النفي والإثبات لما فيه من التلبيس بل يستفصل السائل فيقال له : إن أردت بالغير ما يباين الموصوف فالصفة لا تباينه ; فليست غيره .
وإن أردت بالغير ما يمكن فهم الموصوف على سبيل الإجمال ; وإن لم يكن هو فهو غير بهذا الاعتبار والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد .