فأجاب : الحمد لله . بل فعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن به حاجة إلى الجمع فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها . وإنما كان الجمع منه مرات قليلة .
وفرق كثير من الناس بين الجمع والقصر وظنهم أن هذا يشرع سنة ثابتة والجمع رخصة عارضة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره كان يصلي الرباعية ركعتين ولم ينقل أحد أنه صلى في سفره الرباعية أربعا ; بل وكذلك أصحابه معه .
وهو سبحانه ذكر الخوف والسفر لأن القصر يتناول قصر العدد وقصر الأركان فالخوف يبيح قصر الأركان والسفر يبيح قصر العدد فإذا اجتمعا أبيح القصر بالوجهين وإن انفرد السفر أبيح أحد نوعي القصر والعلماء متنازعون في المسافر : هل فرضه الركعتان ؟ ولا يحتاج قصره إلى نية ؟ أم لا يقصر إلا بنية ؟ على قولين : [ ص: 21 ] والأول : قول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد اختاره أبو بكر وغيره .
والثاني : قول الشافعي وهو القول الآخر في مذهب أحمد اختاره الخرقي وغيره .
والأول هو الصحيح الذي تدل عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقصر بأصحابه ولا يعلمهم قبل الدخول في الصلاة أنه يقصر ولا يأمرهم بنية القصر . ولهذا { nindex.php?page=hadith&LINKID=599429لما سلم من ركعتين ناسيا قال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر قال : بلى قد نسيت } . وفي رواية . { لو كان شيء لأخبرتكم به } ولم يقل لو قصرت لأمرتكم أن تنووا القصر وكذلك لما جمع بهم لم يعلمهم أنه جمع قبل الدخول بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصلاة الأولى فعلم أيضا أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوي حين الشروع في الأولى كقول الجمهور والمنصوص عن أحمد يوافق ذلك .
وقد تنازع العلماء في التربيع في السفر : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو ترك الأولى ؟ أو هو الراجح ؟ فمذهب أبي حنيفة وقول في مذهب مالك : أن القصر واجب وليس له أن يصلي أربعا [ ص: 22 ] ومذهب مالك في الرواية الأخرى وأحمد في أحد القولين بل نصهما أن الإتمام مكروه . ومذهبه في الرواية الأخرى ومذهب الشافعي في أظهر قوليه : أن القصر هو الأفضل والتربيع ترك الأولى . وللشافعي قول أن التربيع أفضل وهذا أضعف الأقوال .
وإذا كان كذلك فكيف يسوى بين الجمع والقصر وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن حاجة عند الأئمة كلهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبيهما بل تنازعوا في جواز الجمع على ثلاثة أقوال .
فمذهب أبي حنيفة أنه لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة . ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلا وإنما يجمع إذا كان سائرا بل عند مالك إذا جد به السير ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أنه يجمع المسافر وإن كان نازلا .
[ ص: 25 ] وقولهم : " أراد أن لا يحرج أمته " يبين أنه ليس المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها فإن مراعاة مثل هذا فيه حرج عظيم . ثم إن هذا جائز لكل أحد في كل وقت ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة فلا بد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع به عنهم الحرج دون غير أرباب الأعذار .
وهذا ينبني على أصل كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو : أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة ولغيرهم خمسة فإن الله تعالى قال : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فذكر ثلاثة مواقيت والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر . والزلف يتناول المغرب والعشاء . وكذلك قال : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } والدلوك هو الزوال في أصح القولين . يقال : دلكت الشمس وزالت وزاغت ومالت . فذكر الدلوك والغسق وبعد الدلوك يصلى الظهر والعصر وفي الغسق تصلى المغرب والعشاء ذكر أول الوقت وهو الدلوك وآخر الوقت وهو الغسق والغسق اجتماع الليل وظلمته .
ولهذا قال الصحابة nindex.php?page=showalam&ids=38كعبد الرحمن بن عوف وغيره : المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء . وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر . وهذا مذهب جمهور الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد .
[ ص: 26 ] وأيضا فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر . ولهذا كان القول المرضي عند جماهير العلماء أنه يجمع بمزدلفة وعرفة من كان أهله على مسافة القصر ومن لم يكن أهله كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلى معه جميع المسلمين أهل مكة وغيرهم ولم يأمر أحدا منهم بتأخير العصر ولا بتقديم المغرب فمن قال من أصحاب الشافعي وأحمد : أن أهل مكة لا يجمعون فقوله ضعيف في غاية الضعف مخالف للسنة البينة الواضحة التي لا ريب فيها ; وعذرهم في ذلك أنهم اعتقدوا أن سبب الجمع هو السفر الطويل والصواب أن الجمع لا يختص بالسفر الطويل بل يجمع للمطر ويجمع للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين .
وأيضا فكون الجمع يختص بالطويل فيه قولان للعلماء وهما وجهان في مذهب أحمد : أحدهما : يجمع في القصير وهو المشهور ومذهب الشافعي لا .