فأجاب : أما التكبير فإنه مشروع في عيد الأضحى بالاتفاق . وكذلك هو مشروع في عيد الفطر : عند مالك والشافعي وأحمد . وذكر ذلك الطحاوي مذهبا لأبي حنيفة وأصحابه . والمشهور عنهم خلافه لكن التكبير فيه هو المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم والتكبير فيه أوكد من جهة أن الله أمر به بقوله : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } .
وأما التكبير في النحر فهو أوكد من جهة أنه يشرع أدبار الصلوات [ ص: 222 ] وأنه متفق عليه وأن عيد النحر يجتمع فيه المكان والزمان وعيد النحر أفضل من عيد الفطر ولهذا كانت العبادة فيه النحر مع الصلاة . والعبادة في ذاك الصدقة مع الصلاة . والنحر أفضل من الصدقة لأنه يجتمع فيه العبادتان البدنية والمالية فالذبح عبادة بدنية ومالية والصدقة والهدية عبادة مالية ولأن الصدقة في الفطر تابعة للصوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ولهذا سن أن تخرج قبل الصلاة كما قال تعالى : { قد أفلح من تزكى } { وذكر اسم ربه فصلى } . وأما النسك فإنه مشروع في اليوم نفسه عبادة مستقلة ولهذا يشرع بعد الصلاة كما قال تعالى : { فصل لربك وانحر } { إن شانئك هو الأبتر } .
فصلاة الناس في الأمصار بمنزلة رمي الحجاج جمرة العقبة وذبحهم في الأمصار بمنزلة ذبح الحجاج هديهم .
والمقصود هنا : أن الله سبحانه أراد شرعا : التكبير على ما هدانا ولهذا قال من قال من السلف : كزيد بن أسلم هو التكبير تكبير العيد واتفقت الأمة على أن صلاة العيد مخصوصة بتكبير زائد ولعله يدخل في التكبير صلاة العيد كما سميت الصلاة تسبيحا وقياما وسجودا وقرآنا وكما أدخلت صلاتا الجمع في ذكر الله في قوله : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وأريد الخطبة والصلاة بقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } ويكون لأجل أن الصلاة لما سميت تكبيرا خصت بتكبير زائد كما أن صلاة الفجر لما سميت قرآنا خصت بقرآن زائد وجعل طول القراءة فيها عوضا عن الركعتين في الصلاة الرباعية . وكذلك " صلاة الليل " لما سميت قياما بقوله : { قم الليل } خصت بطول القيام فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القيام والركوع والسجود بالليل ما لا يطيله بالنهار . ولهذا قال بعض السلف : إن التطويل بالليل أفضل وإن تكثير الركوع والسجود بالنهار أفضل .
[ ص: 225 ] وكان التكبير أيضا مشروعا في خطبة العيد زيادة على الخطب الجمعية وكان التكبير أيضا مشروعا عندنا وعند أكثر العلماء من حين إهلال العيد إلى انقضاء العيد إلى آخر الصلاة والخطبة ; لكن هل يقطعه المؤتم إذا شهد المصلى لكونه مشغولا بعد ذلك بانتظار الصلاة ؟ أو يقطعه بالشروع في الصلاة للاشتغال عنه بعد ذلك بالصلاة والخطبة أو لا يقطعه إلى انقضاء الخطبة ؟ فيه خلاف عن أحمد وغيره . والصحيح أنه إلى آخر العيد .
وقيل : هي أيام العشر وهو المشهور عن أحمد وقول الشافعي وغيره . ثم ذكر اسم الله فيها هو ذكره في العشر بالتكبير عندنا وقيل هو ذكره عند رؤية الهدي وأظنه مأثورا عن الشافعي . وفي صحيح البخاري أن ابن عمر وابن عباس كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما . وفي الصحيح عن أنس أنهم كانوا غداة عرفة وهم ذاهبون من منى إلى عرفة يكبر منهم المكبر فلا ينكر عليه ويلبي الملبي فلا ينكر عليه وفي [ ص: 226 ] أمثلة الأحاديث المرفوعة مثل قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599531فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد .
[ ص: 227 ] وأيضا فإنه لا يكون لقوله : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } - إلى قوله - { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله } فجعل إتيانهم إلى المشاعر ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات . ولو أراد الأضحية فقط لم يكن للمشاعر بهذا اختصاص ; فإن الأضحية مشروعة في جميع الأرض إلا أن هذا الوجه يرد على قولنا : بذكر اسم الله في جميع العشر في الأمصار . فيقال : لم خص ذلك بالإتيان إلى المشاعر ؟ وقد يحتج به من يرى ذكر الله عند رؤية الهدي ; لأن الهدي يساق إلى مكة لكن عنده يجوز ذبح الهدي متى وصل فأي فائدة لتوقيته بالأيام المعلومات . ويجاب عن هذا بوجهين : أحدهما : أن الذبح بالمشاعر أصل وبقية الأمصار تبع لمكة ولهذا كان عيد النحر العيد الأكبر ويوم النحر يوم الحج الأكبر لأنه يجتمع فيه عيد المكان والزمان .
الثاني : أن ذكر الله هناك على ما رزقهم من الأضحية والهدي جميعا بخلاف غير مكة فإنه ليس فيها إلا الأضحية . وهي مختصة بالأيام المعلومات فإن الهدي عندنا مؤقت فإذا ساق الهدي لم ينحره إلا عند الإحلال ولا يجوز له أن يحل حتى ينحر هديه كما قال تعالى : { حتى يبلغ الهدي محله } وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في [ ص: 228 ] حجة الوداع أن يحلوا إلا من ساق الهدي فلا يحل حتى ينحره وهذا إذا قدم به في العشر بلا نزاع وأما إذا قدم به قبل العشر ففيه روايتان : فإن قيل : فإذا كان الكتاب والسنة قد أمرا بذكره في الأيام المعلومات فهلا شرع التكبير فيها في أدبار الصلوات كما شرع في أيام العيد ؟ .
فالتكبير شرع أيضا لدفع العدو من شياطين الإنس والجن والنار التي هي عدو لنا وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال .
أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة : ليبين أن الله أكبر وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار فيكون الدين كله لله ويكون العباد له مكبرين فيحصل لهم مقصودان . مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر ; لأن هذه الثلاث [ ص: 230 ] أكبر ما يطلبه العبد وهي جماع مصالحه . والهدي أعظم من الرزق والنصر لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا وأما الهدي فمنفعته في الآخرة قطعا وهو المقصود بالرزق والنصر فخص بصريح التكبير ; لأنه أكبر نعمة الحق . وذانك دونه فوسع الأمر فيهما بعموم ذكر اسم الله .
وأما التهليل فهو قرين التكبير كما في كلمات الأذان : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم بعد دعاء العباد إلى الصلاة : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فهو مشتمل على التكبير والتشهد أوله وآخره . وهو ذكر لله تعالى وفي وسطه دعاء الخلق إلى الصلاة والفلاح . فالصلاة هي العمل . والفلاح هو ثواب العمل لكن جعل التكبير شفعا والتشهد وترا فمع كل تكبيرتين شهادة ; وجعل أوله مضاعفا على آخره ففي [ أول ] الأذان يكبر أربعا ويتشهد مرتين والشهادتان جميعا باسم الشهادة وفي آخره التكبير مرتان فقط مع التهليل الذي لم يقترن به لفظ الشهادة ولا الشهادة الأخرى .
وهذا والله أعلم بمنزلة الركعتين الأوليين من الصلاة مع الركعتين الأخريين فإن الأوليين فضلتا بقراءة السورة وبالجهر في القراءة فحصل الفضل في قدر القراءة ووصفها كما أن الشطر الأول من الأذان فضل في قدر الذكر وفي وصفه لكن الوصف هنا كون التوحيد قرن به لفظ أشهد ولهذا حذف في الإقامة عند من يختار إيتارها وهي إقامة بلال - ما فضل به من القدر كما يخفض [ ص: 233 ] من صوت الإقامة لأن هذا المزيد من جنس الأصل فأشبه حذف الركعتين الأخريين في صلاة المسافر . وأما الكلمات الأصول فلم يحذف منها شيء .
وهكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وصلاة الكسوف وغيرهما تطويل أول العبادة على آخرها ; لأسباب تقتضي ذلك .
وأيضا فإن التوحيد أصل الإيمان وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار وهو ثمن الجنة ولا يصح إسلام أحد إلا به ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء فمنزلته منزلة الأصل ومنزلة التحميد والتسبيح منزلة الفرع .
وأيضا فإنه مشروع على وجه التعظيم والجهر وعند الأمور العظيمة مثل الأذان الذي ترفع به الأصوات وعند الصعود على الأماكن العالية لما في ذلك من العلو والرفعة ويجهر بالتكبير في الصلوات وهو المشروع في الأعياد .
فنقول : الأحوال ثلاثة : حال يستحب فيها الإسرار ويكره فيها الجهر ; لأنها حال انخفاض كالركوع والسجود . فهنا التسبيح أفضل من التهليل والتكبير وكذلك في بطون الأودية وأما ما السنة فيه الجهر والإعلان كالإشراف والأذان فالسنة فيه التهليل والتكبير وأما ما يشرع فيه الأمران فقد يكون هذا .
وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثا ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . فيشبهه بذكر الأشراف في تثليثه وضم التهليل إليه وهذا اختيار الشافعي .
وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة [ ص: 242 ] من الصحابة ورواه الدارقطني من حديث جابر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599550الله أكبر الله أكبر لا إلا إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد } فيشفعونه مرتين ويقرنون به في إحداهما التهليل وفي الأخرى الحمد تشبيها له بذكر الأذان . فإن هذا به أشبه لأنه متعلق بالصلاة ولأنه في الأعياد التي يجتمع فيها اجتماعا عاما كما أن الأذان لاجتماع الناس فشابه الأذان في أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان وأنه متعلق بالصلاة لا بالشرف فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن .
ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثاني مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا .
وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها وكما قلنا في أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الاستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد بإثبات الواو [ ص: 243 ] وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر .
ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا ولا بقراءتين معا ولا بصلاتي خوف معا وإن فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيا عنه فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه أخرى ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات على النبي المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق وقال في حديث أبي بكر الصديق المتفق عليه لما { nindex.php?page=hadith&LINKID=599551قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا وفي رواية كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم } . فقال يستحب أن يقول : كثيرا كبيرا وكذلك يقول في أشباه هذا : فإن هذا ضعيف فإن هذا أولا ليس سنة بل خلاف المسنون . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك جميعه جميعا . وإنما كان يقول هذا تارة وهذا تارة إن كان الأمران ثابتين عنه فالجمع بينهما ليس سنة بل بدعة وإن كان جائزا .
الثالث أن الأذكار المشروعة أيضا لو لفق الرجل له تشهدا من التشهدات المأثورة فجمع بين حديث ابن مسعود و وصلواته وبين زاكيات تشهد عمر ومباركات ابن عباس بحيث يقول : التحيات لله والصلوات والطيبات والمباركات والزاكيات لم يشرع له ذلك ولم يستحب فغيره أولى بعدم الاستحباب .
[ ص: 245 ] الرابع أن هذا إنما يفعله من [ ذهب ] إلى كثرة الحروف . والألفاظ وقد ينقص المعنى أو يتغير بذلك ولو تدبر القول لعلم أن كل واحد من المأثور يحصل المقصود وإن كان بعضها يحصله أكمل فإنه إذا قال : ظلما كثيرا فمتى كثر فهو كبير في المعنى ومتى كبر فهو كثير في المعنى .
وإذا قال : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " أو قال : " اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته " فأزواجه وذريته من آله بلا شك أو هم آله فإذا جمع بينهما وقال : " على آل محمد وعلى أزواجه وذريته " لم يكن قد تدبر المشروع . فالحاصل أن أحد الذكرين إن وافق الآخر في أصل المعنى كان كالقراءتين اللتين معناهما واحد وإن كان المعنى متنوعا كان كالقراءتين المتنوعتي المعنى وعلى التقديرين فالجمع بينهما في وقت واحد لا يشرع .
وأما الجمع في صلوات الخوف أو التشهدات أو الإقامة أو نحو ذلك بين نوعين فمنهي عنه باتفاق المسلمين وإذا كانت هذه العبادات القولية أو الفعلية لا بد من فعلها على بعض الوجوه كما لا بد من قراءة القرآن على بعض القراءات لم يجب أن يكون كل من فعل ذلك على بعض الوجوه إنما يفعله على الوجه الأفضل عنده أو قد لا يكون [ ص: 246 ] فيها أفضل . وإنما ذلك بمنزلة الطرق إلى مكة فكل أهل ناحية يحجون من طريقهم وليس اختيارهم لطريقهم ; لأنها أفضل بحيث يكون حجهم أفضل من حج غيرهم بل لأنه لا بد من طريق يسلكونها فسلكوا هذه إما ليسرها عليهم وإما لغير ذلك وإن كان الجميع سواء . فينبغي أن يفرق بين اختيار بعض الوجوه المشروعة لفضله في نفسه عند مختاره وبين كون اختيار واحد منها ضروريا . والمرجح له عنده سهولته عليه أو غير ذلك .
والسلف كان كل منهم يقرأ ويصلي ويدعو ويذكر على وجه مشروع وأخذ ذلك الوجه عنه أصحابه وأهل بقعته وقد تكون تلك الوجوه سواء وقد يكون بعضها أفضل فجاء في الخلف من يريد أن يجعل اختياره لما اختاره لفضله فجاء الآخر فعارضه في ذلك ونشأ من ذلك أهواء مردية مضلة فقد يكون النوعان سواء عند الله ورسوله فترى كل طائفة طريقها أفضل وتحب من يوافقها على ذلك وتعرض عمن يفعل ذلك الآخر فيفضلون ما سوى الله بينه ويسوون ما فضل الله بينه وهذا باب من أبواب التفرق والاختلاف الذي دخل على الأمة وقد نهى عنه الكتاب والسنة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عين هذا الاختلاف في الحديث الصحيح كما قررت مثل ذلك في " الصراط المستقيم " حيث قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=13722اقرءوا كما علمتم } . [ ص: 247 ] فالواجب أن هذه الأنواع لا يفضل بعضها على بعض إلا بدليل شرعي لا يجعل نفس تعيين واحد منها لضرورة أداء العبادة موجبا لرجحانه ; فإن الله إذا أوجب علي عتق رقبة أو صلاة جماعة كان من ضرورة ذلك أن أعتق رقبة وأصلي جماعة ولا يجب أن تكون أفضل من غيرها بل قد لا تكون أفضل بحال فلا بد من نظر في الفضل ثم إذا فرض أن الدليل الشرعي يوجب الرجحان لم يعب على من فعل الجائز ولا ينفر عنه لأجل ذلك ولا يزاد الفضل على مقدار ما فضلته الشريعة فقد يكون الرجحان يسيرا .
لكن هنا مسألة تابعة وهو أنه مع التساوي أو الفضل أيما أفضل للإنسان المداومة على نوع واحد من ذلك أو أن يفعل هذا تارة وهذا تارة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل . فمن الناس من يداوم على نوع من ذلك مختارا له أو معتقدا أنه أفضل ويرى أن مداومته على ذلك النوع أفضل . وأما أكثرهم فمداومته عادة ومراعاة لعادة أصحابه وأهل طريقته لا لاعتقاد الفضل .
والصواب أن يقال : التنوع في ذلك متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم - فإن في هذا اتباعا للسنة والجماعة وإحياء لسنته وجمعا بين قلوب الأمة وأخذا بما في كل واحد من الخاصة - أفضل من المداومة على نوع معين لم يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم لوجوه : [ ص: 248 ] أحدها : أن هذا هو اتباع السنة والشريعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد فعل هذا تارة وهذا تارة ولم يداوم على أحدهما كان موافقته في ذلك هو التأسي والاتباع المشروع وهو أن يفعل ما فعل على الوجه الذي فعل لأنه فعله .
الثالث : أن ذلك يخرج الجائز المسنون عن أن يشبه بالواجب فإن المداومة على المستحب أو الجائز مشبهة بالواجب ولهذا أكثر هؤلاء المداومين على بعض الأنواع الجائزة أو المستحبة لو انتقل عنه لنفر عنه قلبه وقلب غيره أكثر مما ينفر عن ترك كثير من الواجبات ; لأجل العادة التي جعلت الجائز كالواجب .
الرابع : أن في ذلك تحصيل مصلحة كل واحد من تلك الأنواع فإن كل نوع لا بد له من خاصة وإن كان مرجوحا فكيف إذا كان [ ص: 249 ] مساويا وقد قدمنا أن المرجوح يكون راجحا في مواضع .
الخامس : أن في ذلك وضعا لكثير من الآصار والأغلال التي وضعها الشيطان على الأمة بلا كتاب من الله ولا أثارة من علم فإن مداومة الإنسان على أمر جائز مرجحا له على غيره ترجيحا يحب من يوافقه عليه ولا يحب من لم يوافقه عليه بل ربما أبغضه بحيث ينكر عليه تركه له ويكون ذلك سببا لترك حقوق له وعليه يوجب أن ذلك يصير إصرا عليه لا يمكنه تركه وغلا في عنقه يمنعه أن يفعل بعض ما أمر به وقد يوقعه في بعض ما نهي عنه .
وهذا القدر الذي قد ذكرته واقع كثيرا فإن مبدأ المداومة على ذلك يورث اعتقادا ومحبة غير مشروعين ثم يخرج إلى المدح والذم والأمر والنهي بغير حق ثم يخرج ذلك إلى نوع من الموالاة والمعاداة غير المشروعين من جنس أخلاق الجاهلية كأخلاق الأوس والخزرج في الجاهلية وأخلاق .
ثم يخرج من ذلك إلى العطاء والمنع فيبذل ماله على ذلك عطية ودفعا وغير ذلك من غير استحقاق شرعي ويمنع من أمر الشارع [ ص: 250 ] بإعطائه إيجابا أو استحبابا ثم يخرج من ذلك إلى الحرب والقتال كما وقع في بعض أرض المشرق ومبدأ ذلك تفضيل ما لم تفضله الشريعة . والمداومة عليه وإن لم يعتقد فضله سبب لاتخاذه فاضلا اعتقادا وإرادة فتكون المداومة على ذلك إما منهيا عنها وإما مفضولة والتنوع في المشروع بحسب ما تنوع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل وأكمل .
السادس : أن في المداومة على نوع دون غيره هجرانا لبعض المشروع وذلك سبب لنسيانه والإعراض عنه حتى يعتقد أنه ليس من الدين بحيث يصير في نفوس كثير من العامة أنه ليس من الدين وفي نفوس خاصة هذه العامة عملهم مخالف علمهم فإن علماءهم يعلمون أنه من الدين ثم يتركون بيان ذلك إما خشية من الخلق وإما اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا من الرئاسة والمال كما كان عليه أهل الكتاب كما قد رأينا من تعود ألا يسمع إقامة إلا موترة أو مشفوعة فإذا سمع الإقامة الأخرى نفر عنها وأنكرها ويصير كأنه سمع أذانا ليس أذان المسلمين وكذلك من اعتاد القنوت قبل الركوع أو بعده .
ونكتة هذا الوجه أنه وإن جاز الاقتصار على فعل نوع لكن حفظ النوع الآخر من الدين ليعلم أنه جائز مشروع وفي العمل به تارة حفظ للشريعة وترك ذلك قد يكون سببا لإضاعته ونسيانه .
السابع : أن الله يأمر بالعدل والإحسان والعدل التسوية بين المتماثلين وحرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده ومن أعظم العدل العدل في الأمور الدينية فإن العدل في أمر الدنيا من الدماء والأموال كالقصاص والمواريث وإن كان واجبا وتركه ظلم فالعدل في أمر الدين أعظم منه وهو العدل بين شرائع الدين وبين أهله .
فإذا كان الشارع قد سوى بين عملين أو عاملين : كان تفضيل أحدهما من الظلم العظيم وإذا فضل بينهما كانت التسوية كذلك والتفضيل أو التسوية بالظن وهوى النفوس من جنس دين الكفار فإن جميع أهل الملل والنحل يفضل أحدهم دينه إما ظنا وإما هوى إما اعتقادا وإما اقتصادا وهو سبب التمسك به وذم غيره .
[ ص: 252 ] فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرع تلك الأنواع إما بقوله وإما بعمله وكثير منها لم يفضل بعضها على بعض : كانت التسوية بينها من العدل والتفضيل من الظلم وكثير مما تتنازع الطوائف من الأمة في تفاضل أنواعه : لا يكون بينها تفاضل بل هي متساوية وقد يكون ما يختص به أحدهما مقاوما لما يختص به الآخر ثم تجد أحدهم يسأل : أيما أفضل هذا أو هذا ؟ وهي مسألة فاسدة فإن السؤال عن التعيين فرع ثبوت الأصل فمن قال إن بينهما تفاضلا حتى نطلب عين الفاضل .
والواجب أن يقال : هذان متماثلان أو متفاضلان وإن كانا متفاضلين : فهل التفاضل مطلقا أو فيه تفصيل بحيث يكون هذا أفضل في وقت وهذا أفضل في وقت ؟ ثم إذا كانت المسألة كما ترى فغالب الأجوبة صادرة عن هوى وظنون كاذبة خاطئة ومن أكبر أسباب ذلك المداومة على ما لم تشرع المداومة عليه والله أعلم .