فأجاب : الحمد لله . الخسوف والكسوف لهما أوقات مقدرة كما لطلوع الهلال وقت مقدر وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار ، والشتاء والصيف وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر .
وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر أو ليلة إحدى وثلاثين وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين أو تسعة وعشرين . فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل فهو غالط .
فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار ووقت إبداره هي الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها : ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر . فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي .
[ ص: 256 ] والهلال يستسر آخر الشهر : إما ليلة وإما ليلتين . كما يستسر ليلة تسع وعشرين وثلاثين والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف . كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها .
لكن العلم بالعادة في الهلال علم عام يشترك فيه جميع الناس وأما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه فيها أعظم من صدقه فإن ذلك قول بلا علم ثابت وبناء على غير أصل صحيح .
[ ص: 257 ] وأما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء لمحاذاة الشمس أوائل البروج التي يقولون فيها إن الشمس نزلت في برج كذا : أي حاذته .
ومن قال من الفقهاء إن الشمس تكسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط وقال ما ليس له به علم . وما يروى عن الواقدي من ذكره : أن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم العاشر من الشهر وهو اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف : غلط . والواقدي لا يحتج بمسانيده فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ فأما هذا فيعلم أنه خطأ . ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم ومن حاج في ذلك فقد حاج في ما ليس له به علم .
وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد والكسوف فهذا ذكروه في ضمن كلامهم فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات فقد رأوا اجتماعها مع الوتر والظهر وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم هل يمكن ذلك في العادة أو لا يمكن فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج لكن استفيد من ذلك العلم علم ذلك على تقدير وجوده كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع لتحرير القواعد وتمرين الأذهان على ضبطها .
والعلم بوقت الكسوف والخسوف وإن كان ممكنا لكن هذا المخبر المعين قد يكون عالما بذلك وقد لا يكون وقد يكون ثقة في خبره وقد لا يكون . وخبر المجهول الذي لا يوثق بعلمه وصدقه ولا يعرف كذبه موقوف . ولو أخبر مخبر بوقت الصلاة وهو مجهول لم يقبل خبره ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي فإن صلاة الكسوف والخسوف لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك وإذا جوز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين وقد تواترت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواها أهل الصحيح والسنن والمسانيد من وجوه كثيرة . واستفاض عنه أنه صلى بالمسلمين صلاة الكسوف يوم مات ابنه إبراهيم .
وقد روي في صفة صلاة الكسوف أنواع ; لكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم : كمالك والشافعي وأحمد : أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان يقرأ قراءة طويلة ثم يركع ركوعا طويلا دون القراءة ثم يقوم فيقرأ قراءة طويلة دون القراءة الأولى ثم يركع ركوعا دون الركوع [ ص: 260 ] الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين . وثبت عنه في الصحيح : أنه جهر بالقراءة فيها .
والمقصود أن تكون الصلاة وقت الكسوف إلى أن يتجلى فإن فرغ من الصلاة قبل التجلي ذكر الله ودعاه إلى أن يتجلى .
والكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد يكسف نصفها أو ثلثها . فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك .
وقد جاء إطالته للسجود في حديث صحيح وكذلك الجهر بالقراءة لكن روي في القراءة المخافتة والجهر أصح . وأما تطويل السجود فلم [ ص: 262 ] يختلف فيه الحديث لكن في كل حديث زيادة ليست في الآخر والأحاديث الصحيحة كلها متفقة لا تختلف والله أعلم .