وسئل رحمه الله هل الشرع المطهر ينكر ما تفعله الشياطين الجانة من مسها وتخبيطها وجولان بوارقها على بني آدم واعتراضها ؟ فهل لذلك معالجة بالمخرقات والأحراز والعزائم والأقسام والرقى والتعوذات والتمائم ؟ وأن بعض الناس قال : لا يحكم عليهم ; لأن الجن يرجعون إلى الحقائق عند عامرة الأجساد بالبوار وأن هذه الخواتم المتخذة مع كل إنسان من سرياني وعبراني وعجمي وعربي ليس لها برهان وأنها من مختلق الأقاويل وخرافات الأباطيل وأنه ليس لأحد من بني آدم من القوة ولا من القبض بحيث يفعل ما ذكرنا من متولي هذا الشأن على ممر الدهور والأوقات ؟ .
وهذا الذي قاله أمر مشهور فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما . والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله وقد يجر المصروع وغير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول آلات وينقل من مكان إلى مكان ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان .
وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك .
وإن كان في ذلك كلمات محرمة مثل أن يكون فيها شرك أو كانت مجهولة المعنى يحتمل أن يكون فيها كفر فليس لأحد أن يرقي بها ولا يعزم ولا يقسم وإن كان الجني قد ينصرف عن المصروع بها فإن ما حرمه الله ورسوله ضرره أكثر من نفعه كالسيما وغيرها من أنواع السحر فإن الساحر السيماوي وإن كان ينال بذلك بعض أغراضه كما ينال السارق بالسرقة بعض أغراضه وكما ينال الكاذب بكذبه وبالخيانة بعض أغراضه وكما ينال المشرك بشركه وكفره بعض أغراضه وهؤلاء وإن نالوا بعض أغراضهم بهذه المحرمات فإنها تعقبهم من الضرر عليهم في الدنيا والآخرة أعظم مما حصلوه من أغراضهم .
فإن الله بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فكل ما أمر الله به ورسوله فمصلحته راجحة على مفسدته ومنفعته راجحة على المضرة . وإن كرهته النفوس . كما قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } الآية .
فأمر بالجهاد وهو مكروه للنفوس لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من ألمه بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء . وكذلك التاجر الذي يتغرب عن وطنه ويسهر ويخاف ويتحمل هذه المكروهات مصلحة الربح الذي يحصل له راجحة على هذه المكاره . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=18128حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات } .
والأحاديث فيما يثيب الله عبده المؤمن على الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة كثيرة جدا وليس للعبد أن يدفع كل ضرر بما شاء ولا يجلب كل نفع بما شاء بل لا يجلب النفع إلا بما فيه تقوى الله ولا يدفع الضرر إلا بما فيه تقوى الله فإن كان ما يفعله من العزائم والأقسام والدعاء والخلوة والسهر ونحو ذلك مما أباحه الله ورسوله فلا بأس به وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله لم يفعله .
فمن كذب بما هو موجود من الجن والشياطين والسحر وما يأتون به على اختلاف أنواعه - كدعاء الكواكب وتخريج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية وما ينزل من الشياطين على كل أفاك أثيم فالشياطين التي تنزل عليهم ويسمونها روحانية الكواكب - وأنكروا دخول الجن في أبدان الإنس وحضورها بما يستحضرون به من العزائم والأقسام وأمثال ذلك كما هو موجود فقد كذب بما لم يحط به علما .
ومن جوز أن يفعل الإنسان بما رآه مؤثرا من هذه الأمور من غير أن يزن ذلك بشريعة الإسلام - فيفعل ما أباحه الله ويترك [ ص: 281 ] ما حرم الله - وقد دخل فيما حرمه الله ورسوله إما من الكفر وإما من الفسوق وإما العصيان بل على كل أحد أن يفعل ما أمر الله به ورسوله ويترك ما نهى الله عنه ورسوله .