وإذا قيل : بالكراهة . هل تكون كراهة تحريم ؟ أم تنزيه ؟ وهل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زار قبري وجبت له شفاعتي " . أم لا ؟ وهل صح في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الأحاديث أم لا ؟ .
فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده أو به أو طلب الحوائج منه أو من الله تعالى عند قبره أو الاستغاثة به أو الإقسام على الله تعالى به ونحو ذلك هو من البدع التي لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار .
والحديث الذي يرويه بعض الناس " إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي " هو من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين ولا هو في شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله : " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به " فإن هذا أيضا من المكذوبات .
[ ص: 336 ] وقد نص غير واحد من العلماء على أنه لا يقسم على الله بمخلوق لا نبي ولا غيره فمن ذلك ما ذكره nindex.php?page=showalam&ids=14972أبو الحسين القدوري في " كتاب شرح الكرخي " عن nindex.php?page=showalam&ids=15536بشر بن الوليد قال : سمعت أبا يوسف قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك وبحق خلقك ، وهو قول أبي يوسف وقال أبو يوسف : بمعاقد العز من عرشه : هو الله تعالى فلا أكره هذا . وأكره بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام .
قال القدوري شارح الكتاب : المسألة بخلقه لا تجوز ; لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز يعني : وفاقا .
قلت : وأما الاستشفاع إلى الله تعالى به وهو طلب الشفاعة منه والتوسل إلى الله بدعائه وشفاعته وبالإيمان به وبمحبته وطاعته والتوجه إلى الله تعالى بذلك فهذا مشروع باتفاق المسلمين كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة .
فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد وأما الطاعة والمحبة والإرضاء : فعلينا أن نطيع الله ورسوله ونحب الله ورسوله ونرضي الله ورسوله ; لأن طاعة الرسول طاعة لله وإرضاءه إرضاء لله وحبه من حب الله .
وكثير من أهل الضلال من الكفار وأهل البدع بدلوا الدين فإن الله تعالى جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده فليس لأحد طريق إلى الله إلا متابعة [ ص: 339 ] الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر .
ومن جعل إلى الله طريقا غير متابعة الرسول للخاصة والعامة فهو كافر بالله ورسوله : مثل من يزعم أن من خواص الأولياء أو العلماء أو الفلاسفة أو أهل الكلام أو الملوك من له طريق إلى الله تعالى غير متابعة رسوله ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو أعظم الكفر والكذب . كقول بعضهم : إن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة فقالوا : اذهب إلى من أنت رسول إليه . وقال بعضهم : إنهم أصبحوا ليلة المعراج فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول . وقول بعضهم : إنهم قاتلوه في بعض الغزوات مع الكفار وقالوا : من كان الله معه كنا معه وأمثال ذلك من الأمور التي هي من أعظم الكفر والكذب .
ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى الخضر عن موسى ومثل قول بعضهم : إن خاتم الأولياء له طريق إلى الله يستغني به عن خاتم الأنبياء وأمثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر والتصوف والكلام والتفلسف . وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى وقد يكون [ ص: 340 ] أعظم وقد يكون أخف بحسب أحوالهم .
و " الزيارة البدعية " هي من أسباب الشرك بالله تعالى ودعاء خلقه وإحداث دين لم يأذن به الله . و " الزيارة الشرعية " هي من جنس الإحسان إلى الميت بالدعاء له كالإحسان إليه . بالصلاة عليه وهي من العبادات لله تعالى التي ينفع الله بها الداعي والمدعو له كالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الوسيلة والدعاء لسائر المؤمنين : أحيائهم وأمواتهم .
وأما المسألة المتنازع فيها : فالزيارة المأذون فيها هل فيها إذن للنساء ونسخ للنهي في حقهن ؟ أو لم يأذن فيها بل هن منهيات عنها ؟ وهل النهي نهي تحريم أو تنزيه ؟ في ذلك للعلماء ثلاثة أقوال معروفة والثلاثة أقوال في مذهب الشافعي وأحمد أيضا وغيرهما . وقد حكي في ذلك ثلاث روايات عن أحمد ، وهو نظير تنازعهم في تشييع النساء للجنائز وإن كان فيهم من يرخص في الزيارة دون التشييع كما اختار ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم .
فمن العلماء من اعتقد أن النساء مأذون لهن في الزيارة وأنه أذن [ ص: 344 ] لهن كما أذن للرجال واعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=24172فزوروها فإنها تذكركم الآخرة } خطاب عام للرجال والنساء ، والصحيح أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه : أحدها : أن قوله صلى الله عليه وسلم " فزوروها " صيغة تذكير وصيغة التذكير إنما تتناول الرجال بالوضع وقد تتناول النساء أيضا على سبيل التغليب لكن هذا فيه قولان : قيل : إنه يحتاج إلى دليل منفصل وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل وقيل : إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة في نهي النساء كما سنذكره إن شاء الله تعالى بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء وإن علم تقدم الخاص على العام .
[ ص: 345 ] وأما زيارته لأهل البقيع فذلك فيه أيضا الاستغفار لهم والدعاء كما علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا زاروا قبور المؤمنين أن يسلموا عليهم ويدعوا لهم ، فلو كانت زيارة القبور مأذونا فيها للنساء لاستحب لهن كما استحب للرجال لما فيها من الدعاء للمؤمنين وتذكر الموت ، وما علمنا أن أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال .
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وكان قد مات في غيبتها . وقالت : لو شهدتك لما زرتك ، وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال إذ لو كان كذلك لاستحب لها زيارته كما تستحب للرجال زيارته سواء شهدته أو لم تشهده .
وأيضا فإن الصلاة على الجنائز أوكد من زيارة القبور ومع هذا فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن اتباع الجنائز وفي ذلك تفويت صلاتهن على الميت فإذا لم يستحب لهن اتباعها لما فيها من الصلاة والثواب فكيف بالزيارة .
[ ص: 346 ] الوجه الثالث أن يقال : غاية ما يقال في قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=24172فزوروا القبور } خطاب عام ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=36632من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان } هو أدل على العموم من صيغة التذكير فإن لفظ : " من " يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس وإن خالف فيه من لا يدري ما يقول . ولفظ " من " أبلغ صيغ العموم ثم قد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز سواء كان نهي تحريم أو تنزيه . فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى وكلاهما من جنس واحد فإن تشييع الجنازة من جنس زيارة القبور . قال الله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فنهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين وعن القيام على قبورهم .
وكان دليل الخطاب وموجب التعليل يقتضي أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم ، وذلك كما قال أكثر المفسرين : هو القيام بالدعاء والاستغفار وهو مقصود زيارة قبور المؤمنين فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز مع ما في ذلك من الصلاة على الميت فلأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه [ ص: 347 ] بطريق الأولى بخلاف ما إذا أمكن النساء أن يصلين على الميت بلا اتباع كما يصلين عليه في البيت فإن ذلك بمنزلة الدعاء له والاستغفار في البيت .
وإذا قيل مفسدة الاتباع للجنائز أعظم من مفسدة الزيارة ; لأن المصيبة حديثة وفي ذلك أذى للميت وفتنة للحي بأصواتهن وصورهن . قيل : ومطلق الاتباع أعظم من مصلحة الزيارة ; لأن في ذلك الصلاة عليه التي هي أعظم من مجرد الدعاء ; ولأن المقصود بالاتباع الحمل والدفن والصلاة فرض على الكفاية وليس شيء من الزيارة فرضا على الكفاية - وذلك الفرض يشترك فيه الرجال والنساء بحيث لو مات رجل وليس عنده إلا نساء لكان حمله ودفنه والصلاة عليه فرضا عليهن وفي تغسيلهن للرجال نزاع وتفصيل . وكذلك إذا تعذر غسل الميت هل ييمم ؟ فيه نزاع معروف وهو قولان في مذهب أحمد وغيره - فإذا كان النساء منهيات عما جنسه فرض على الكفاية ومصلحته أعظم إذا قام به الرجال فما ليس بفرض على أحد أولى .
وقول القائل : مفسدة التشييع أعظم : ممنوع ; بل إذا رخص للمرأة في الزيارة كان ذلك مظنة تكرير ذلك فتعظم فيه المفسدة ويتجدد الجزع والأذى للميت فكان ذلك مظنة قصد الرجال لهن والافتتان بهن كما هو الواقع في كثير من الأمصار فإنه يقع بسبب [ ص: 348 ] زيارة النساء القبور من الفتنة والفواحش والفساد ما لا يقع شيء منه عند اتباع الجنائز .
وهذا كله يبين أن جنس زيارة النساء أعظم من جنس اتباعهن وأن نهي الاتباع إذا كان نهي تنزيه لم يمنع أن يكون نهي الزيارة نهي تحريم وذلك أن نهي المرأة عن الاتباع قد يتعذر لفرط الجزع كما يتعذر تسكينهن لفرط الجزع أيضا فإذا خفف هذه القوة المقتضي لم يلزم تخفيف ما لا يقوى المقتضى فيه . وإذا عفا الله تعالى للعبد عما لا يمكن تركه إلا بمشقة عظيمة لم يلزم أن يعفو له عما يمكنه تركه بدون هذه المشقة الواجبة .
[ ص: 349 ] فإن قيل : الحديث الأول رواه Multitarajem.php?tid=5842,16659عمر بن أبي سلمة وقد قال فيه nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني تركه شعبة وليس بذاك وقال Multitarajem.php?tid=13218,13219ابن سعد كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه . وقال السعدي والنسائي ليس بقوي الحديث . والثاني فيه أبو صالح باذام مولى أم هانئ وقد ضعفوه قال أحمد : كان nindex.php?page=showalam&ids=13577ابن مهدي ترك حديث أبي صالح وكان أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه تفسير وما أقل ما له في المسند ولم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه .
قلت : الجواب على هذا من وجوه : أحدها : أن يقال كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء كما جرحه آخرون أما عمر فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي : ليس به بأس وكذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين : ليس به بأس ، وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية .
وأما قول من قال : تركه شعبة فمعناه أنه لم يرو عنه . كما قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل لم يسمع شعبة من Multitarajem.php?tid=5842,16659عمر بن أبي سلمة شيئا وشعبة ويحيى بن سعيد nindex.php?page=showalam&ids=16349وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد [ ص: 350 ] أخبارهم فهم إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلا له . وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح وهذا معروف في غير واحد قد خرج له في الصحيح .
وكذلك قول من قال : ليس بقوي في الحديث عبارة لينة تقتضي أنه ربما كان في حفظه بعض التغير ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمد الكذب ولا مبالغة في الغلط .
وأما أبو صالح : فقد قال يحيى بن سعيد القطان لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا ولم يتركه شعبة ولا زائدة فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عرف من عادة شعبة ، وترك nindex.php?page=showalam&ids=13577ابن مهدي له لا يعارض ذلك فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من nindex.php?page=showalam&ids=13577ابن مهدي فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من nindex.php?page=showalam&ids=13577ابن مهدي وأمثاله .
وأما قول أبي حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين وذلك أن شرطه في التعديل صعب والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم .
[ ص: 351 ] وهذا كقول من قال : لا أعلم أنهم رضوه ، وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العالية ولهذا لم يخرجالبخاري ومسلم له ولأمثاله ، لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه ، وإذا كان كذلك فيقال : إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يقبل الجرح إلا مفسرا فيكون التعديل مقدما على الجرح المطلق .
الوجه الثاني : أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يحتج به جمهور العلماء فإذا صححه من صححه كالترمذي وغيره ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر كان أقل أحواله أن يكون من الحسن .
الوجه الثالث : أن يقال قد روي من وجهين مختلفين : أحدهما عن ابن عباس والآخر عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ورجال هذا ليس رجال هذا فلم يأخذه أحدهما عن الآخر وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ ومثل هذا حجة بلا ريب وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيها متهم ولم يكن شاذا : أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقاة . وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيه متهم ولا خالفه أحد من الثقاة وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين : إما تعمد الكذب وإما خطأ الراوي فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما [ ص: 352 ] عن الآخر وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه : علم أنه ليس بكذب ; لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب .
وأما الخطأ فإنه مع التعدد يضعف ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط ولهذا قال تعالى في المرأتين { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } هذا لو كانا عن صاحب واحد فكيف وهذا قد رواه عن صاحب وذلك عن آخر وفي لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث في الأصل معروف .
[ ص: 353 ] الثاني : خاص في النساء وهو قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=599620لعن الله زوارات القبور أو زائرات القبور } وقوله : " فزوروها " بطريق التبع فيدخلن بعموم ضعيف إما أن يكون مختصا بالرجال وإما أن يكون متناولا للنساء والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه وهو المعروف عند أصحابه فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص إذ قد يكون قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599621لعن الله زوارات القبور } بعد إذنه للرجال في الزيارة ويدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج وذكر هذا بصيغة التذكير التي تتناول الرجال ولعن الزائرات جعله مختصا بالنساء ، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج باق محكم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فكذلك الآخر .
وأما ما ذكر عن عائشة رضي الله عنها فأحمد احتج به في إحدى الروايتين عنه لما أداه اجتهاده إلى ذلك والرواية الأخرى عنه تناقض ذلك وهي اختيار الخرقي وغيره من قدماء أصحابه .
ولا حجة في حديث عائشة ، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ ، وهو كما قالت رضي الله عنها ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة . يبين ذلك قولها : " قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا [ ص: 354 ] يقتضي الاستحباب والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة ولكن عائشة بينت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول فلم يصلح أن يحتج به وهو النساء على أصل الإباحة ، ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها : لما زرتك .
الجواب الرابع : جواب طائفة منهم : كإسحاق بن راهويه فإنهم يقولون : اللعن قد جاء بلفظ الزوارات وهن المكثرات للزيارة فالمرة الواحدة في الدهر لا تتناول ذلك ولا تكون المرأة زائرة ويقولون : عائشة زارت مرة واحدة ولم تكن زوارة .
وأما القائلون بالتحريم : فيقولون قد جاء بلفظ " الزوارات " ولفظ الزوارات قد يكون لتعددهن كما يقال : فتحت الأبواب إذ لكل باب فتح يخصه ومنه قوله تعالى { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ ص: 355 ] ومعلوم أن لكل باب فتحا واحدا . قالوا : ولأنه لا ضابط في ذلك بين ما يحرم وما لا يحرم واللعن صريح في التحريم .
الجواب الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت ويرقق القلب ويدمع العين هكذا في مسند أحمد ، ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وكثرة الجزع وقلة الصبر .
وأيضا فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها ولافتتان الرجال [ ص: 356 ] بصوتها وصورتها كما جاء في حديث آخر : { فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت } وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع .
ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك من النظر وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها ; ولهذا قال الفقهاء : إذا علمت المرأة من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز من قول أو عمل لم تجز لها الزيارة بلا نزاع .
فصل : وأما الحديث المذكور في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضعيف وليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث حسن ولا صحيح ولا روى أهل السنن المعروفة كسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي ولا أهل المسانيد المعروفة كمسند أحمد [ ص: 357 ] ونحوه ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئا بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة ، كما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة } وهذا حديث موضوع كذب باتفاق أهل العلم .
ومما يبين ذلك أن مالكا - رحمه الله - كره أن يقول الرجل : [ ص: 358 ] زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومالك قد أدرك الناس من التابعين وهم أعلم الناس بهذه المسألة ، فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو : بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .
وقد ذكروا في أسباب كراهته أن يقول زرت قبر النبي لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية وهي قصد الميت لسؤاله ودعائه والرغبة إليه في قضاء الحوائج ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد بخلاف الصلاة عليه والسلام فإن ذلك مما أمر الله به .
أما لفظ الزيارة في عموم القبور فقد لا يفهم منها مثل هذا المعنى ألا ترى إلى قوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=24172فزوروا القبور . فإنها تذكركم الآخرة } مع زيارته لقبر أمه فإن هذا يتناول زيارة قبور الكفار فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع ; بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين : [ ص: 359 ] كالأنبياء والصالحين ، فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا ، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة .
فكيف يعدل من له علم وإيمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التي لم يثبت منها شيئا أحد من أهل العلم ، والله سبحانه أعلم وصلى الله على محمد . .