وسئل رحمه الله هل الميت يسمع كلام زائره ويرى شخصه ؟ وهل تعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره ؟ وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم سواء كان من المال الموروث عنه وغيره ؟ وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله سواء كان مدفونا قريبا منهم أو بعيدا ؟ وهل تنقل روحه إلى جسده في ذلك الوقت أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها ؟ وهل يتأذى ببكاء أهله عليه ؟ والمسئول من أهل العلم رضي الله عنهم الجواب عن هذه الفصول - فصلا فصلا - جوابا واضحا مستوعبا لما ورد فيه من الكتاب والسنة وما نقل فيه عن الصحابة رضي الله عنهم وشرح مذاهب الأئمة والعلماء : أصحاب المذاهب واختلافهم وما الراجح من أقوالهم مأجورين إن شاء الله تعالى .
} . فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي ولا يجب أن يكون السمع له دائما بل قد يسمع في حال دون حال كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحيانا خطاب من يخاطبه وقد لا يسمع لعارض يعرض له وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء ولا هو السمع المنفي بقوله : { إنك لا تسمع الموتى } فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال ، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه وكالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفقه المعنى ، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى فإنه لا يمكنه إجابة الداعي ولا امتثال ما أمر به ونهى عنه فلا ينتفع بالأمر والنهي ، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي وإن سمع الخطاب وفهم المعنى . كما [ ص: 365 ] قال تعالى : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
} . وأما رؤية الميت : فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها .
هذا وجاء في عدة آثار أن الأرواح تكون في أفنية القبور قال مجاهد : الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه فهذا يكون أحيانا وقال مالك بن أنس : بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت . والله أعلم .
[ ص: 366 ] فصل : وأما " القراءة والصدقة " وغيرهما من أعمال البر فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية كالصدقة والعتق كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار والصلاة عليه صلاة الجنازة والدعاء عند قبره .
وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فيقال له قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة : أنه يصلى [ ص: 367 ] عليه ويدعى له ويستغفر له ، وهذا من سعي غيره ، وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه والعتق وهو من سعي غيره ، وما كان من جوابهم في موارد الإجماع فهو جواب الباقين في مواقع النزاع . وللناس في ذلك أجوبة متعددة .
لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل : إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه وإنما قال : { ليس للإنسان إلا ما سعى } فهو لا يملك إلا سعيه ولا يستحق غير ذلك . وأما سعي غيره فهو له كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه ، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير ; لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز .
وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم سواء كان من أقاربه أو غيرهم كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره .
وما استقرارهم فبحسب منازلهم عند الله فمن كان من المقربين كانت منزلته أعلى من منزلة من كان من أصحاب اليمين ; لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل والأسفل لا يصعد إلى الأعلى فيجتمعون إذا شاء الله كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم ويتزاورون .
[ ص: 369 ] وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة ، قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن وقد تفترق مع تقارب المدافن يدفن المؤمن عند الكافر وروح هذا في الجنة وروح هذا في النار والرجلان يكونان جالسين أو نائمين في موضع واحد وقلب هذا ينعم وقلب هذا يعذب وليس بين الروحين اتصال ، فالأرواح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=599638جنود مجندة : فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف .
وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره فهو مخالف لقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة .
فمنهم من غلط الرواة لها nindex.php?page=showalam&ids=2كعمر بن الخطاب وغيره ، وهذه طريقة عائشة والشافعي وغيرهما .
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه وهو قول طائفة : كالمزني وغيره .
ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم فيعذب على ترك النهي عن المنكر وهو اختيار طائفة : منهم جدي أبو البركات وكل [ ص: 371 ] هذه الأقوال ضعيفة جدا .
والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبي موسى الأشعري وغيرهم لا ترد بمثل هذا . وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه ولا يكون الأمر كذلك ، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا .
} والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، واعتقد هؤلاء أن الله يعاقب الإنسان بذنب غيره فجوزوا [ ص: 372 ] أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم ، وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة فالذي دل عليه الكتاب والسنة أن الله لا يدخل النار إلا من عصاه كما قال : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } فلا بد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع فمن لم يتبع إبليس لم يدخل النار .
وأطفال الكفار أصح الأقوال فيهم : أن يقال فيهم : الله أعلم بما كانوا عاملين . كما قد أجاب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، فطائفة من أهل السنة وغيرهم قالوا : إنهم كلهم في النار واختار ذلك nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى وغيره وذكر أنه منصوص عن أحمد وهو غلط على أحمد . وطائفة جزموا أنهم كلهم في الجنة واختار ذلك أبو الفرج بن الجوزي وغيره واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=69522لما رأى إبراهيم الخليل وعنده أطفال المؤمنين قيل : يا رسول الله وأطفال المشركين ؟ قال : وأطفال المشركين .
} والصواب أن يقال فيهم : الله أعلم بما كانوا عاملين ولا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يوم القيامة في عرصات القيامة يؤمرون وينهون فمن أطاع دخل الجنة ومن [ ص: 373 ] عصى دخل النار وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة .
وأما تعذيب الميت : فهو لم يقل : إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه ، بل قال : " يعذب " والعذاب أعم من العقاب فإن العذاب هو الألم وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابا له على ذلك السبب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=14362السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه } فسمى السفر عذابا وليس هو عقابا على ذنب .
والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة والأرواح الخبيثة والصور القبيحة فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا ورؤية هذا ولم يكن ذلك عملا له عوقب عليه فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له يعاقب عليه ؟ .
والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس ويتألم برؤية بعضهم وبسماع كلامه ولهذا أفتى nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى : بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها كما جاءت بذلك الآثار ، فتعذيبهم [ ص: 375 ] بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم ، ثم النياحة سبب العذاب .
وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة والأرواح والصور القبيحة .
وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب ، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك : إما بتوبة مقبولة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بشفاعة شفيع مطاع وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته فإنه { لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
وما ذكرنا في أن الموتى يسمعون الخطاب ويصل إليهم الثواب ويعذبون بالنياحة بل وما لم يسأل عنه السائل من عقابهم في قبورهم وغير ذلك فقد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناما ويعلمون ذلك ويتحققونه وعندنا من ذلك أمور كثيرة لكن الجواب في المسائل العلمية يعتمد فيه على ما جاء به الكتاب والسنة فإنه يجب على الخلق التصديق به وما كشف للإنسان من ذلك أو أخبره به من هو صادق عنده فهذا ينتفع به من علمه ويكون ذلك مما يزيده إيمانا وتصديقا بما جاءت به النصوص ولكن لا يجب على جميع الخلق الإيمان بغير ما جاءت به الأنبياء فإن الله عز وجل أوجب التصديق بما جاءت به الأنبياء كما في قوله تعالى { قولوا آمنا بالله } الآية . وقال تعالى : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } الآية ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=58810قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر .
} . فالمحدث الملهم المكاشف من هذه الأمة يجب عليه أن يزن ذلك بالكتاب والسنة فإن وافق ذلك صدق ما ورد عليه وإن خالف لم يلتفت إليه ، كما كان يجب على عمر رضي الله عنه وهو سيد المحدثين إذا ألقي في قلبه شيء وكان مخالفا للسنة لم يقبل منه فإنه ليس معصوما وإنما العصمة للنبوة .
ولهذا كان الصديق أفضل من عمر فإن الصديق لا يتلقى من قلبه بل من مشكاة النبوة وهي معصومة والمحدث يتلقى تارة عن قلبه وتارة عن النبوة فما تلقاه عن النبوة فهو معصوم يجب اتباعه وما ألهم في قلبه : فإن وافق ما جاءت به النبوة فهو حق وإن خالف ذلك فهو باطل .
فلهذا لا يعتمد أهل العلم والإيمان في مثل مسائل العلم والدين إلا على نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإن كان عندهم في بعض ذلك شواهد وبينات مما شاهدوه ووجدوه ومما عقلوه وعملوه وذلك ينتفعون به هم في أنفسهم وأما حجة الله تعالى على عباده فهم رسله وإلا فهذه المسائل فيها من الدلائل والاعتبارات العقلية والشواهد [ ص: 378 ] الحسية الكشفية ما ينتفع به من وجد ذلك وقياس بني آدم وكشفهم تابع لما جاءت به الرسل عن الله تعالى فالحق في ذلك موافق لما جاءت به الرسل عن الله تعالى لا مخالف له ومع كونه حقا فلا يفصل الخلاف بين الناس ولا يجب على من لم يحصل له ذلك التصديق به كما يجب التصديق بما عرف أنه معصوم وهو كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .