[ ص: 202 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن أهل مدينة رأى بعضهم هلال ذي الحجة ولم يثبت عند حاكم المدينة : فهل لهم أن يصوموا اليوم الذي في الظاهر التاسع . وإن كان في الباطن العاشر ؟
فإن الناس لو وقفوا بعرفة في اليوم العاشر خطأ أجزأهم الوقوف [ ص: 203 ] بالاتفاق وكان ذلك اليوم يوم عرفة في حقهم . ولو وقفوا الثامن خطأ ففي الإجزاء نزاع . والأظهر صحة الوقوف أيضا وهو أحد القولين في مذهب مالك ومذهب أحمد وغيره .
قالت عائشة - رضي الله عنها - " إنما عرفة اليوم الذي يعرفه الناس " وأصل ذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الحكم بالهلال والشهر فقال تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } والهلال اسم لما يستهل به : أي يعلن به ويجهر به فإذا طلع في السماء ولم يعرفه الناس ويستهلوا لم يكن هلالا .
وإنما الذي يشتبه في هذا الباب مسألتان : إحداهما : لو رأى هلال شوال وحده أو أخبره به جماعة يعلم صدقهم : هل يفطر ؟ أم لا ؟ والثانية : لو رأى هلال ذي الحجة أو أخبره جماعة يعلم صدقهم هل يكون في حقه يوم عرفة ويوم النحر هو التاسع والعاشر بحسب هذه الرؤية التي لم تشتهر عند الناس ؟ أو هو التاسع والعاشر الذي اشتهر عند الناس ؟ .
فأما المسألة الأولى : فالمنفرد برؤية هلال شوال لا يفطر علانية باتفاق العلماء . إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر كمرض وسفر وهل يفطر سرا على قولين للعلماء أصحهما لا يفطر سرا وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور في مذهبهما .
وفيهما قول أنه يفطر سرا كالمشهور في مذهب أبي حنيفة [ ص: 205 ] والشافعي وقد روي أن رجلين في زمن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأيا هلال شوال فأفطر أحدهما ولم يفطر الآخر . فلما بلغ ذلك عمر قال : للذي أفطر لولا صاحبك لأوجعتك ضربا .
وهذا يظهر بالمسألة الثانية فإنه لو انفرد برؤية ذي الحجة لم يكن له أن يقف قبل الناس في اليوم الذي هو في الظاهر الثامن وإن كان بحسب رؤيته هو التاسع وهذا لأن في انفراد الرجل في الوقوف والذبح من مخالفة الجماعة ما في إظهاره للفطر .
[ ص: 206 ] فمن أمره بالصوم يوم الثلاثين الذي هو بحسب الرؤية الخفية من شوال ولم يأمره . بالفطر سرا سوغ له صوم هذا اليوم واستحبه ; لأن هذا هو يوم عرفة كما أن ذلك من رمضان وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة والاعتبار .
ومن أمره بالفطر سرا لرؤيته نهاه عن صوم هذا اليوم عند هذا القائل كهلال شوال الذي انفرد برؤيته .
فإن قيل قد يكون الإمام الذي فوض إليه إثبات الهلال مقصرا لرده شهادة العدول إما لتقصيره . في البحث عن عدالتهم وإما رد شهادتهم لعداوة بينه وبينهم أو غير ذلك من الأسباب التي ليست بشرعية أو لاعتماده . على قول المنجم الذي زعم أنه لا يرى .
قيل : ما يثبت من الحكم لا يختلف الحال فيه بين الذي يؤتم به في رؤية الهلال مجتهدا مصيبا كان أو مخطئا أو مفرطا فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر بحيث يتحرى الناس فيه . وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في الأئمة : { nindex.php?page=hadith&LINKID=43902يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم } . فخطؤه وتفريطه عليه لا على المسلمين الذين لم يفرطوا ولم يخطئوا .
والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب . فإن العلماء . بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي وإنما غاية الحساب منهم إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلا ; لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة فإنها تختلف باختلاف حدة النظر وكلاله وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال وانخفاضه وباختلاف صفاء . الجو وكدره . وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لثنتي عشر درجة ; ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية تنازعا مضطربا وأئمتهم : كبطليموس لم يتكلموا في ذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي .
وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم مثل كوشيار الديلمي وأمثاله . لما رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال فرأوا الحساب طريقا تنضبط فيه [ ص: 208 ] الرؤية وليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة بل خطؤها كثير وقد جرب وهم يختلفون كثيرا : هل يرى ؟ أم لا يرى ؟ وسبب ذلك : أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب فأخطئوا طريق الصواب وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح كما تكلمت على حد اليوم أيضا وبينت أنه لا ينضبط بالحساب ; لأن اليوم يظهر بسبب الأبخرة المتصاعدة فمن أراد أن يأخذ حصة العشاء من حصة الفجر إنما يصح كلامه لو كان الموجب لظهور النور وخفائه مجرد محاذاة الأفق التي تعلم بالحساب .
فأما إذا كان للأبخرة في ذلك تأثير والبخار يكون في الشتاء والأرض الرطبة أكثر مما يكون في الصيف والأرض اليابسة . وكان ذلك لا ينضبط بالحساب فسدت طريقة القياس الحسابي .
ولهذا توجد حصة الفجر في زمان الشتاء أطول منها في زمان الصيف . والآخذ بمجرد القياس الحسابي يشكل عليه ذلك لأن حصة الفجر عنده تتبع النهار وهذا أيضا مبسوط في موضعه والله سبحانه أعلم . وصلى الله على محمد .