ثم حدثت عنده مع ذلك همة إلى طلب المقصود وقيام أكثر الليل وكثرة الاجتهاد والدأب في العبادة فاجتمع عليه ثقل يبس الصيام مع ضعف القوة في السبب مع يبس التكرار وكثرته مع اليبس الحادث من الهمة الحادة وهو شاب عنده حرارة الشبوبية فأثر مجموع ذلك خللا في ذهنه من ذهول وصداع يلحقه في رأسه وبلادة [ ص: 271 ] في فهمه بحيث أنه لا يحيط بمعنى الكلام إذا سمعه وظهر أثر اليبس في عينيه حتى كادتا أن تغورا . وقد وجد في هذا الاجتهاد شيئا من الأنوار وهو لا يترك هذا الصيام لعقده الذي عقده مع الله تعالى لخوفه أن يذهب النور الذي عنده فإذا نهاه أحد من أهل المعرفة يتعلل ويقول : أنا أريد أن أقتل نفسي في الله . فهل صومه هذا يوافق رضا الله تعالى ؟ وهو بهذه الصفة أم هو مكروه ؟ لا يرضي الله به . وهل يباح له هذا العقد ؟ وعليه فيه كفارة يمين أم لا ؟ وهل اشتغاله بما فيه صلاح جسمه وصيانة دماغه وعقله وذهنه ليتوفر على حفظ فرائضه ومصلحة عياله الذي يرضى الله منه ويريده منه أم لا ؟ وهل إصراره على ذلك موجب لمقت الله تعالى حيث يلقي نفسه إلى التهلكة بشيء لم يجب عليه ؟ وإن كان مشروعا في السنة : فهل هو مشروع مطلقا لكل أحد ؟ أم هو مخصوص بمن لا يتضرر به ؟ يسأل كشف هذه المسألة وحلها . فقد أعيا هذا الشخص الأطباء وأحزن العقلاء لدخوله في السلوك بالجهل غافلا عن مراد ربه ونسأل تقييد الجواب وإعضاده بالكتاب والسنة ليصل إلى قلبه ذلك آجركم الله تعالى ومتع المسلمين بطول بقاكم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم . ورضي الله عن أصحابه أجمعين .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب : " اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة " . فمتى كانت العبادة توجب له ضررا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة مثل أن يصوم صوما يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل أو الفهم الواجب . أو يمنعه عن الجهاد الواجب [ ص: 273 ] وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها مثل أن يخرج ماله كله ثم يستشرف إلى أموال الناس ويسألهم .
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها وأوقعته في مكروهات فإنها مكروهة . وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة : هذا يسرد الصوم وهذا يقوم الليل كله وهذا يجتنب أكل اللحم وهذا يجتنب النساء . فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم والنساء وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام والقيام والقراءة والذكر ونحو ذلك . والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح . ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم والعدوان .
وكان عبد الله بن عمرو لما كبر يقول : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ربما عجز عن صوم يوم وفطر يوم . فكان يفطر أياما ثم يسرد الصيام أياما بقدرها لئلا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم على حال ثم ينتقل عنها . وهذا لأن بدنه كان يتحمل ذلك . وإلا فمن الناس من إذا صام يوما وأفطر يوما شغله عما هو أفضل من ذلك فلا يكون الصوم أفضل في حقه .
وأما النور الذي وجده بهذا الصوم : فمعلوم أن جنس العبادات ليس شرا محضا بل العبادات المنهي عنها تشتمل على منفعة ومضرة ولكن لما ترجح ضررها على نفعها نهى عنها الشارع كما نهى عن صيام الدهر وقيام الليل كله دائما وعن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر مع أن خلقا يجدون في المواصلة الدائمة نورا بسبب كثرة الجوع وذلك من جنس ما يجده الكفار من أهل الكتاب والأميين . مثل الرهبان وعباد القبور لكن يعود ذلك الجوع المفرط الزائد على الحد المشروع يوجب لهم ضررا في الدنيا والآخرة فيكون إثمه أكثر من نفعه . كما قد رأينا من هؤلاء خلقا كثيرا آل بهم الإفراط فيما يعانونه . من شدائد الأعمال إلى التفريط والتثبيط والملل والبطالة وربما انقطعوا عن الله بالكلية أو بالأعمال المرجوحة عن الراجحة أو بذهاب العقل بالكلية أو بحصول خلل فيه وذلك لأن أصل أعمالهم وأساسها على غير استقامة ومتابعة . [ ص: 279 ] وأما قوله : أريد أن أقتل نفسي في الله . فهذا كلام مجمل فإنه إذا فعل ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن . وفي مثله أنزل الله قوله : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد } ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روى الخلال بإسناده عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : " أن رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس : ألقى بيده إلى التهلكة . فقال عمر : لا ولكنه ممن قال الله فيه : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد } .
وأما إذا فعل ما لم يؤمر به حتى أهلك نفسه فهذا ظالم متعد بذلك : مثل أن يغتسل من الجنابة في البرد الشديد بماء بارد يغلب على ظنه أنه يقتله أو يصوم في رمضان صوما يفضي إلى هلاكه فهذا لا يجوز . فكيف في غير رمضان .
والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة ; بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : من عبد الله بجهل أفسد أكثر مما يصلح .
ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء لا ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته [ ص: 282 ] وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله . فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل . فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة . وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل .
وأصل ذلك أن يعلم العبد أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا ; ولهذا يثني الله على العمل الصالح ويأمر بالصلاح والإصلاح وينهى عن الفساد .
ومثال ذلك منافع الدنيا فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع عدو عظيم كان هذا محمودا . وأما من تحمل كلفا عظيمة ومشاقا شديدة لتحصيل يسير من المال أو دفع يسير من الضرر كان بمنزلة من أعطي ألف درهم ليعتاض بمائة درهم . أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيرا منها في بلده .
فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها كالفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة فمن كان كذلك فمصيره إليه إن شاء الله تعالى .
هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها مثل الجوع والسهر والمشي .
وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة الله ومحبته والإنابة إليه [ ص: 284 ] والتوكل عليه فهذه شرع فيها الكمال لكن يقع فيها سرف وعدوان بإدخال ما ليس منها فيها مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل أو يدخل استحلال المحرمات وترك المشروعات في المحبة فهذا هذا . والله سبحانه وتعالى أعلم .