[ ص: 299 ] وسئل شيخ الإسلام عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء . والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وغير ذلك إلى الشارع : فهل ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح ؟ أم لا ؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا ؟ وما تفعله الطائفة الأخرى من المأتم والحزن والعطش وغير ذلك من الندب والنياحة وقراءة المصروع وشق الجيوب . هل لذلك أصل ؟ أم لا ؟ .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين . لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم . ولا روى أهل الكتب المعتمدة . في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين لا صحيحا ولا ضعيفا لا في كتب الصحيح [ ص: 300 ] ولا في السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة .
ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام وأمثال ذلك .
ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم واستواء السفينة على الجودي ورد يوسف على يعقوب وإنجاء إبراهيم من النار وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك .
ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=68514أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة } . ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن nindex.php?page=showalam&ids=12387إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه . قال : { بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته } وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان .
[ ص: 301 ] طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة وإما جهال وأصحاب هوى .
وطائفة ناصبة تبغض عليا وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68516سيكون في ثقيف كذاب ومبير } فكان الكذاب هو nindex.php?page=showalam&ids=8494المختار بن أبي عبيد الثقفي وكان يظهر موالاة أهل البيت والانتصار لهم وقتل عبيد الله بن زياد أمير العراق الذي جهز السرية التي قتلت nindex.php?page=showalam&ids=14129الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم إنه أظهر الكذب وادعى النبوة . وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه حتى قالوا لابن عمر وابن عباس . قالوا لأحدهما : إن nindex.php?page=showalam&ids=8494المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه فقال صدق قال الله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } وقالوا للآخر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال صدق : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } .
وأما المبير فهو الحجاج بن يوسف الثقفي وكان : منحرفا عن علي وأصحابه فكان هذا من النواصب والأول من الروافض وهذا [ ص: 302 ] الرافضي كان : أعظم كذبا وافتراء وإلحادا في الدين فإنه ادعى النبوة وذاك كان أعظم عقوبة لمن خرج على سلطانه وانتقاما لمن اتهمه بمعصية أميره عبد الملك بن مروان وكان في الكوفة بين هؤلاء وهؤلاء فتن وقتال فلما قتل nindex.php?page=showalam&ids=14129الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته . أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أشد بلاء فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599763الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة } رواه الترمذي وغيره .
فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب فإنهما ولدا في عز الإسلام وتربيا في عز وكرامة والمسلمون يعظمونهما ويكرمونهما ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز [ ص: 303 ] فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما كما ابتلى من كان أفضل منهما فإن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب أفضل منهما وقد قتل شهيدا وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم ولهذا جاء في الحديث { ثلاث من نجا منهن فقد نجا : موتي وقتل خليفة مضطهد والدجال } .
فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الأسباب التي افتتن بها خلق كثير من الناس وارتدوا عن الإسلام فأقام الله تعالى الصديق رضي الله عنه حتى ثبت الله به الإيمان وأعاد به الأمر إلى ما كان فأدخل أهل الردة في الباب الذي منه خرجوا وأقر أهل الإيمان على الدين الذي ولجوا فيه وجعل الله فيه من القوة والجهاد والشدة على أعداء الله واللين لأولياء الله ما استحق به وبغيره أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة المارقة يقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق فكان nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ومن معه هم الذين قاتلوهم . فدل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم أدنى إلى الحق من معاوية ومن معه مع إيمان الطائفتين .
ثم إن عبد الرحمن بن ملجم من هؤلاء المارقين قتل أمير المؤمنين عليا فصار إلى كرامة الله ورضوانه شهيدا وبايع الصحابة للحسن ابنه فظهرت فضيلته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=10959إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين } فنزل عن الولاية وأصلح الله به بين الطائفتين وكان هذا مما مدحه به النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ودل ذلك على أن الإصلاح بينهما مما يحبه الله ورسوله ويحمده الله ورسوله .
ثم إنه مات وصار إلى كرامة الله ورضوانه وقامت طوائف كاتبوا الحسين ووعدوه بالنصر والمعاونة إذا قام بالأمر ولم يكونوا من أهل [ ص: 307 ] ذلك بل لما أرسل إليهم ابن عمه أخلفوا وعده . ونقضوا عهده وأعانوا عليه من وعدوه أن يدفعوه عنه ويقاتلوه معه .
وكان أهل الرأي والمحبة للحسين كابن عباس وابن عمر وغيرهما أشاروا عليه بأن لا يذهب إليهم ولا يقبل منهم ورأوا أن خروجه إليهم ليس بمصلحة ولا يترتب عليه ما يسر وكان الأمر كما قالوا وكان أمر الله قدرا مقدورا .
فلما خرج الحسين - رضي الله عنه - ورأى أن الأمور قد تغيرت طلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا . حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه . وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا شهادة أكرمه الله بها وألحقه بأهل بيته الطيبين الطاهرين . وأهان بها من ظلمه واعتدى عليه وأوجب ذلك شرا بين الناس .
فصارت طائفة جاهلة ظالمة : إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية تظهر موالاته وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية .
وهذا من كرامة الله للمؤمنين فإن مصيبة الحسين وغيره إذا ذكرت بعد طول العهد فينبغي للمؤمن أن يسترجع فيها كما أمر الله ورسوله ليعطى من الأجر مثل أجر المصاب يوم أصيب بها .
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد [ ص: 309 ] بالمصيبة فكيف مع طول الزمان فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما وما يصنعون فيه من الندب والنياحة وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام ; والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدنيا ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية فإنهم شر من الخوارج المارقين .
وأولئك قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=69844يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان } . وهؤلاء يعاونون اليهود والنصارى والمشركين على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأمته المؤمنين كما أعانوا المشركين من الترك والتتار على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ولد العباس وغيرهم من أهل البيت والمؤمنين من القتل والسبي وخراب الديار . وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام .
واليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يوما واحدا فإنه قدم المدينة في شهر ربيع الأول فلما كان في العام القابل صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه ثم فرض شهر رمضان ذلك العام فنسخ صوم عاشوراء .
وأما سائر الأمور : مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة إما حبوب وإما غير حبوب أو في تجديد لباس أو توسيع نفقة أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم أو فعل عبادة مختصة . كصلاة مختصة به أو قصد الذبح أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب أو الاكتحال أو الاختضاب أو الاغتسال أو التصافح أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا أبو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك ويروون في ذلك أحاديث وآثارا ويقولون : " إن بعض ذلك صحيح فهم مخطئون غالطون بلا ريب عند أهل المعرفة [ ص: 313 ] بحقائق الأمور . وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=15703حرب الكرماني في مسائله : سئل nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل عن هذا الحديث : { nindex.php?page=hadith&LINKID=21714من وسع على أهله يوم عاشوراء } فلم يره شيئا .
وأعلى ما عندهم أثر يروى عن nindex.php?page=showalam&ids=12387إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال : بلغنا { nindex.php?page=hadith&LINKID=68514أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته } قال سفيان بن عيينة جربناه منذ ستين عاما فوجدناه صحيحا وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليا وأصحابه ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب : مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة .
وأما قول ابن عيينة . فإنه لا حجة فيه فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه وهذا كما أن كثير من الناس ينذرون نذرا لحاجة يطلبها فيقضي الله حاجته فيظن أن النذر كان السبب وقد ثبت [ ص: 314 ] في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { nindex.php?page=hadith&LINKID=599771نهى عن النذر وقال : إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل } فمن ظن أن حاجته إنما قضيت بالنذر فقد كذب على الله ورسوله والناس مأمورون بطاعة الله ورسوله واتباع دينه وسبيله واقتفاء هداه ودليله وعليهم أن يشكروا الله على ما عظمت به النعمة حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح . { nindex.php?page=hadith&LINKID=68535إن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد ; وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } .
ومن لم يفرق بين الأحوال الشيطانية والأحوال الرحمانية : كان بمنزلة من سوى بين محمد رسول الله وبين مسيلمة الكذاب فإن مسيلمة كان له شيطان ينزل عليه ويوحي إليه .
[ ص: 316 ] ومن علامات هؤلاء أن الأحوال إذا تنزلت عليهم وقت سماع المكاء والتصدية أزبدوا وأرعدوا - كالمصروع - وتكلموا بكلام لا يفقه معناه فإن الشياطين تتكلم على ألسنتهم كما تتكلم على لسان المصروع .
ودين الإسلام مبني على أصلين على ألا نعبد إلا الله وأن [ ص: 317 ] نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع . قال تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع المسنون ولهذا كان nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا .