[ ص: 39 ] وسئل رحمه الله ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين ؟ هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد ؟ وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الأحاديث أم لا ؟ أجيبونا مأجورين .
فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقي الدين : الحمد لله . الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك . هذا هو الأصل الجامع . فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم .
" والتقوى " هي : ما فسرها الله تعالى في قوله : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } إلى قوله : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله . وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان . فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل : إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه آمرا [ ص: 40 ] بالمعروف ناهيا عن المنكر بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته ولم يكن فيها مجاهدا وإن كان أروح قلبا . وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع .
. وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة ; لكنها هناك أشق عليه . فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما ; وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم فقالوا : كنا عند البغضاء البعداء وأنتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم جاهلكم ويطعم جائعكم وذلك في ذات الله .
وفي مسلم عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=31617لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة } قال الإمام أحمد : أهل المغرب هم أهل الشام وهو كما قال ; فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك [ ص: 42 ] الزمان كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق ويسمون أهل الشام أهل المغرب ; لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل مكان له غرب وشرق ; فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك في المدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غربة وما تشرق عنها فهو شرقة .
ومن علم حساب البلاد - أطوالها وعروضها - علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات - كالبيرة ونحوها - هي محاذية للمدينة النبوية كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحران وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة . شرفها الله . ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها وما يغرب ذلك فهو غربها .
والآثار في هذا المعنى متعاضدة ولكن الجواب - ليس على البديهة - على عجل .
وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين : أن الخلق والأمر ابتدآ من مكة أم القرى فهي أم الخلق وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض وهي جعلها الله قياما للناس : إليها يصلون ويحجون ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم . فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم ودلت الدلائل المذكورة على أن " ملك النبوة " بالشام والحشر إليها . فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر . وهناك يحشر الخلق . والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام . وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها . وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى [ ص: 44 ] الشام كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو بالشام . فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم .
وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له كما تقدم . وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم . وقد كتب nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي - رضي الله عنهما - يقول له : هلم إلى الأرض [ ص: 45 ] المقدسة فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله . وهو كما قال سلمان الفارسي ; فإن مكة - حرسها الله تعالى - أشرف البقاع وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها وقد كانت الشام في زمن موسى - عليه السلام - قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين وفيها قال تعالى لبني إسرائيل : { سأريكم دار الفاسقين } .
فإن كون الأرض " دار كفر " أو " دار إسلام أو إيمان " أو " دار سلم " أو " حرب " أو " دار طاعة " أو معصية " أو " دار المؤمنين " أو " الفاسقين " أوصاف عارضة ; لا لازمة . فقد تنتقل من وصف إلى وصف كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم وكذلك بالعكس .
ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته واتباع شريعته ومنهاجه . فأفضل الخلق أعلمهم وأتبعهم لما جاء به : علما وحالا وقولا وعملا وهم أتقى الخلق . وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه ; وإن كان الأفضل في حق غيره شيئا آخر . ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه فإن تساوت الحسنات والمصالح التي حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما .
وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب " المساجد الثلاثة " علما وإيمانا ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم . فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا ; بل يعطى كل ذي حق حقه ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو [ ص: 47 ] ذلك . وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا : مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه لا لأجل عمل صالح . فالأعمال بالنيات .
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد كتفضيل القرن الثاني على الثالث وتفضيل العرب على ما سواهم وتفضيل قريش على ما سواهم . فهذا هذا . والله أعلم .