[ ص: 50 ] وسئل رحمه الله تعالى عن " جبل لبنان " هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى ؟ أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل يحل في دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برءوسهم إذا أبصروه ؟ وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة ؟ وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الأبدال ؟ أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز ؟ وهل هذه صفة الصالحين ؟ وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة ؟ أو يعتقد أن من وطأ أرضه فقد وطئ بعض الجبل المخصوص بالرحمة ؟ وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو في أذياله ؟ أو قال أحد من أهل العلم : إن فيه رجال الغيب ؟ وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم ؟ وهل يحل في دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئا من هذا ؟ وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئا آثما ؟ وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا ؟
وأما ما ذكر في بعض الحكايات عن بعض الناس من الاجتماع ببعض العباد في جبل لبنان وجبل اللكام ونحو ذلك . وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال . فأصل ذلك أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو ; لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام فكانت غزة وعسقلان وعكة وبيروت وجبل لبنان وطرابلس ومصيصة وسيس وطرسوس وأذنة وجبل اللكام وملطية وآمد وجبل ليسون إلى قزوين إلى الشاش ونحو ذلك من البلاد ; كانت ثغورا كما كانت الإسكندرية ونحوها ثغورا وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق . وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة في سبيل الله فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء .
فلذلك كان صالحو المؤمنين يرابطون في الثغور : مثل ما كان الأوزاعي وأبو إسحاق الفزاري nindex.php?page=showalam&ids=17056ومخلد بن الحسين وإبراهيم بن [ ص: 53 ] أدهم وعبد الله بن المبارك وحذيفة المرعشي nindex.php?page=showalam&ids=17399ويوسف بن أسباط وغيرهم : يرابطون بالثغور الشامية . ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط في الثغور الشامية ; لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599962من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين } وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين . وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين فإذا غلب أولئك أفسدوا الدين والملك . وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين ; ولا يقاتلون على الدين .
ولهذا كثر ذكر " طرسوس " في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت لأنها كانت ثغر المسلمين حتى كان يقصدها nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل والسري السقطي ; وغيرهما من العلماء والمشايخ للرباط وتوفي المأمون قريبا منها .
فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان والإسكندرية أو عكة أو قزوين أو غير ذلك . وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك : فهو لأجل كونها كانت ثغورا ; لا لأجل خاصية ذلك المكان . وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها ; بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر أو دار حرب أو دار سلم أو دار علم وإيمان أو دار [ ص: 54 ] جهل ونفاق . فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم ; بخلاف المساجد الثلاثة فإن مزيتها صفة لازمة لها ; لا يمكن إخراجها عن ذلك . وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع في جواز تغييرها للمصلحة وجعلها غير مسجد كما فعل nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر وصار الأول حوانيت التمارين . وهذا مذهب nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد وغيره .
فصل إذا عرف ذلك فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة وكان المسلمون قد فتحوا " قبرص " في خلافة عثمان رضي الله عنه فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام : سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة . فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام ; بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر [ ص: 55 ] الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل " نور الدين " " وصلاح الدين " وغيرهما : فاستنقذوا عامة الشام من النصارى .
وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى . وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه .
ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس - زهدا ونسكا - يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه لما فيه من الخلوة عن الناس وأكل المباحات من الثمار التي فيه . فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم وخطأ فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين ; إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه : من فعل الواجبات وترك المحرمات فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه ; فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه .
[ ص: 57 ] فصل وأما اعتقاد بعض الجهال أن به " الأربعين الأبدال " فهذا جهل وضلال ما اجتمع به الأبدال الأربعون قط ولا هذا مشروع لهم ولا فائدة في ذلك واعتقاد جهال الجمهور هذا يشبه اعتقاد الرافضة في الخليفة الحجة صاحب الزمان عندهم الذي يقولون : إنه غائب عن الأبصار حاضر في الأمصار . ويعظمون قدره ويرجون بركته . وهو معدوم لا حقيقة له فكل من علق دينه بالمجهولات وأعرض عما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق : فهو من أهل الضلال الخارج عن شريعة الإسلام بل فيه في هذه الأوقات المتأخرة أهل الضلال من النصارى والنصيرية والرافضة : الذين غزاهم المسلمون .
وكذلك خبر الرجل الذي نبت الشعر على جميع بدنه كالماعز باطل ومحال . نعم يكون في الضلال من الزهاد من يترك السنة حتى ينبت الشعر ويكثر على جسده وهذا ينبغي أن يؤمر بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من إحفاء الشوارب ونتف الإبط وحلق العانة ونحو ذلك .
وإذا عرف هذا فكل ما ذكر من الانحناء للجبل المذكور ونحوه أو لمن فيه أو زيارته بلا قصد للجهاد أو لأمر مشروع : فهو من الجهالات والضلالات . وكذلك التبرك بما يحمل منه من الثمار هو من [ ص: 61 ] البدع الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية والشركية وقد جاء في الحديث المعروف : أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري رأى nindex.php?page=showalam&ids=3أبا هريرة رضي الله عنه وقد سافر إلى الطور - الذي كلم الله موسى عليه - فقال : لو رأيتك قبل أن تذهب إليه لم أدعك تذهب إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=25763لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا } . فإذا كان السفر لزيارة الطور - الذي كلم الله عليه موسى وسماه " الوادي المقدس " و " البقعة المباركة " - لا يشرع ; فكيف بالسفر لزيارة غيره من الأطوار فإن " الطور " هو الجبل والأطوار الجبال .
وأما القبر المشهور في سفحه بالكرك الذي يقال إنه " قبر نوح " فهو باطل محال لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة : إن هذا قبر نوح ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا ; بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة . رأوا هناك قبرا فيه عظم كبير وشموا فيه رائحة فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبي . وقالوا من كان من الأنبياء كبيرا ؟ فقالوا : نوح . فقالوا : هو قبر نوح وبنوا عليه في دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر وزيد بعد ذلك في دولة الظاهر فصار وثنا يشرك به الجاهلون [ ص: 62 ] وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=599966إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء } فلو كان قبر نبي لم يتجرد العظم . وقد حدثني من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر : أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه وشاهدوه قبل ذلك مكانا للزرع والحياكة . وحدثني من الثقات من شاهد في المقابر القريبة منه رءوسا عظيمة جدا تناسب تلك العظام . فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة : الذين كانوا في الزمن القديم أو نحوهم .
فدين الإسلام هو اتباع ما بعث الله به رسوله من أنواع المحبوبات واجتناب ما كرهه الله ورسوله من البدع والضلالات وأنواع المنهيات . فالعبادات الإسلامية : مثل الصلوات المشروعة والجماعات والجمعات وقراءة القرآن وذكر الله الذي شرعه لعباده المؤمنين ودعائه وما يتبع ذلك من أحوال القلوب وأعمال الأبدان . وكذلك أنواع الزكوات : من الصدقات وسائر الإحسان إلى الخلق فإن كل معروف صدقة . وكذلك سائر العبادات المشروعة . فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليها وسائر إخواننا المؤمنين . والله سبحانه أعلم .