[ ص: 112 ] وسئل قدس الله روحه عن حكم قول بعض العلماء والفقراء : إن الدعاء مستجاب عند قبور أربعة - من أصحاب الأئمة الأربعة " قبر الفندلاوي " من أصحاب مالك و " قبر البرهان البلخي " من أصحاب أبي حنيفة و " قبر الشيخ نصر المقدسي " من أصحاب الشافعي . و " قبر الشيخ أبي الفرج " من أصحاب أحمد رضي الله عنهم ؟ ومن استقبل القبلة عند قبورهم ودعا استجيب له ؟ وقول بعض العلماء عن بعض المشايخ يوصيه : إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه استوحني ينكشف عنك ما تجده من الشدة : حيا كنت أو ميتا ؟ ومن قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسلم عليه سبع مرات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر التواجد وقول الفقراء : إن الله تعالى ينظر إلى الفقراء بتجليه عليهم في ثلاثة مواطن : عند مد السماط وعند قيامهم في الاستغفار أو المجاراة التي بينهم وعند السماع ؟ وما يفعله بعض المتعبدين من الدعاء عند قبر زكريا وقبر هود والصلاة عندهما والموقف بين شرقي رواق الجامع بباب الطهارة بدمشق [ ص: 113 ] والدعاء عند المصحف العثماني ومن ألصق ظهره الموجوع بالعمود الذي عند رأس قبر معاوية عند الشهداء بباب الصغير . فهل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت مخصوص أو مكان معين : عند قبر نبي أو ولي أو يجوز أن يستغيث إلى الله تعالى في الدعاء بنبي مرسل أو ملك مقرب أو بكلامه تعالى أو بالكعبة أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف أو بدعاء أم داود أو الخضر ؟ ؟
. وهل يجوز أن يقسم على الله تعالى في السؤال بحق فلان بحرمة فلان بجاه المقربين بأقرب الخلق أو يقسم بأفعالهم وأعمالهم ؟ وهل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران وسرج ; لكونه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام عنده أو يجوز تعظيم شجرة يوجد فيها خرق معلقة ويقال : هذه مباركة يجتمع إليها الرجال الأولياء ؟ وهل يجوز تعظيم جبل أو زيارته أو زيارة ما فيه من المشاهد والآثار والدعاء فيها والصلاة كمغارة الدم وكهف آدم والآثار . ومغارة الجوع وقبر شيث وهابيل ونوح وإلياس وحزقيل وشيبال الراعي وإبراهيم بن أدهم بجبلة وعش الغراب ببعلبك ومغارة الأربعين وحمام طبرية وزيارة عسقلان ومسجد صالح بعكا - وهو مشهور بالحرمات والتعظيم والزيارات ؟ .
[ ص: 114 ] وهل يجوز تحري الدعاء عند القبور وأن تقبل أو يوقد عندها القناديل والسرج ؟ وهل يحصل للأموات بهذه الأفعال من الأحياء منفعة أو مضرة ؟ وهل الدعاء عند " القدم النبوي " بدار الحديث الأشرفية بدمشق وغيره وقدم موسى ومهد عيسى " ومقام إبراهيم ورأس الحسين nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب الرومي وبلال الحبشي nindex.php?page=showalam&ids=12338وأويس القرني وما أشبه ذلك - كله في سائر البلاد والقرى والسواحل والجبال والمشاهد والمساجد والجوامع ؟ .
وكذلك قولهم : الدعاء مستجاب عند برج " باب كيسان " بين بابي الصغير والشرقي مستدبرا له متوجها إلى القبلة والدعاء عند داخل باب الفرادين ؟ فهل ثبت شيء في إجابة الأدعية في هذه الأماكن أم لا ؟ وهل يجوز أن يستغاث بغير الله تعالى بأن يقول : يا جاه محمد أو يا لست نفيسة أو يا سيدي أحمد أو إذا عثر أحد وتعسر أو قفز من مكان إلى مكان يقول : يال علي أو يال الشيخ فلان : أم لا ؟ وهل تجوز النذور للأنبياء أو للمشايخ : مثل الشيخ جاكير أو أبي الوفاء أو نور الدين الشهيد أو غيرهم أم لا ؟ وكذلك هل تجوز النذور لقبور أحد من آل بيت النبوة ومدركه والأئمة الأربعة ومشايخ العراق والعجم ومصر والحجاز واليمن والهند والمغرب وجميع الأرض وجبل قان وغيرها أم لا ؟ .
[ ص: 115 ] فأجاب : الحمد لله رب العالمين . أما قول القائل : إن الدعاء مستجاب عند قبور المشايخ الأربعة المذكورين - رضي الله عنهم - فهو من جنس قول غيره : قبر فلان هو الترياق المجرب ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل : من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان . فإن كثيرا من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجل صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذبا أو مجهول الحال : مثل أكثر ما يذكر من قبور الأنبياء وقد يكون صحيحا والرجل ليس بصالح فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول أو من يقول : إن الدعاء مستجاب عند قبر بعينه وأنه استجيب له الدعاء عنده والحال أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والابتداع وإما قبر كافر كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك ورأينا من ذلك أنواعا .
وأصل هذا : أن قول القائل : إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين قول ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين ; كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق [ ص: 116 ] بن راهويه وأبي عبيدة ولا مشايخهم الذين يقتدى بهم : nindex.php?page=showalam&ids=14919كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ؟ nindex.php?page=showalam&ids=12032وأبي سليمان الداراني وأمثالهم .
وتنازعوا في السلام عليه . فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما : يسلم عليه مستقبل القبر وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منقولا عنه . وقال أبو حنيفة وأصحابه : بل يسلم عليه مستقبل القبلة ; بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقا كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في " كتاب المبسوط " وذكره nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض . قال مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو ; ولكن يسلم ويمضي . وقال أيضا في " المبسوط " لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر . فقيل له : فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو في اليوم المرة والمرتين أو [ ص: 118 ] أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ; إلا من جاء من سفر أو أراده . قال ابن القاسم : رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر وسلموا . قال : وذلك دأبي .
فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه - أي زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم - يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه . وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه وهو المشروع من الصلاة والسلام وأن ذلك أيضا لا يستحب لأهل المدينة كل وقت . بل عند القدوم من سفر أو إرادته ; لأن ذلك تحية له والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته ; بخلاف القادمين من السفر . وقال مالك في رواية أبي وهب : إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف وجهه إلى القبر ; لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده .
فأما " الزيارة الشرعية " فهي من جنس الصلاة على الميت : يقصد بها الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة عليه كما قال الله في حق المنافقين : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } فلما نهى عن [ ص: 120 ] الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم : دل ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلة الحكم أن ذلك مشروع في حق المؤمنين . والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن يراد به الدعاء له . وهذا هو الذي مضت به السنة واستحبه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين .
وقد نص الأئمة كالشافعي وغيره على أن النهي عن ذلك معلل [ ص: 121 ] بخوف الفتنة بالقبر لا بمجرد نجاسته كما يظن ذلك بعض الناس ; ولهذا كان السلف يأمرون بتسوية القبور وتعفية ما يفتتن به منها كما أمر nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب بتعفية قبر دانيال لما ظهر بتستر فإنه كتب إليه أبو موسى يذكر أنه قد ظهر قبر دانيال وأنهم كانوا يستسقون به فكتب إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفنه بالليل في واحد منها ويعفيه لئلا يفتتن به الناس .
فإذا كان هذا هو المشروع في قبر سيد ولد آدم وخير الخلق وأكرمهم على الله فكيف يقال في قبر غيره وقد تواتر عن الصحابة أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد - كحالهم في الجدب والاستسقاء وعند القتال والاستنصار - يدعون الله ويستغيثونه في المساجد والبيوت ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من قبور الأنبياء والصالحين ; بل قد ثبت في الصحيح أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون . فتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون به وهو أنهم كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته وهكذا توسلوا بدعاء العباس وشفاعته ولم يقصدوا الدعاء عند قبر [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقسموا على الله بشيء من مخلوقاته بل توسلوا إليه بما شرعه من الوسائل وهي الأعمال الصالحة ودعاء المؤمنين كما يتوسل العبد إلى الله بالإيمان بنبيه وبمحبته وموالاته والصلاة عليه والسلام وكما يتوسلون في حياته بدعائه وشفاعته كذلك يتوسل الخلق في الآخرة بدعائه وشفاعته . ويتوسل بدعاء الصالحين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { nindex.php?page=hadith&LINKID=69363وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم : بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم } .
ومن المعلوم بالاضطرار أن الدعاء عند القبور لو كان أفضل من الدعاء عند غيرها وهو أحب إلى الله وأجوب : لكان السلف أعلم بذلك من الخلف " وكانوا أسرع إليه . فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه وأسبق إلى طاعته ورضاه ولكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك ويرغب فيه ; فإنه أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر وما ترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به ولا شيئا يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه وقد ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا ينزوي عنها بعده إلا هالك . فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بلعنه ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد ؟ فنهى عن الصلاة لله مستقبلا لها وإن كان المصلي لا يعبد الموتى ولا يدعوهم كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب ; لأنها [ ص: 124 ] وقت سجود المشركين للشمس وإن كان المصلي لا يسجد إلا لله ; سدا للذريعة . فكيف إذا تحققت المفسدة بأن صار العبد يدعو الميت ويدعو به كما إذا تحققت المفسدة بالسجود للشمس وقت الطلوع ووقت الغروب .
فصل وأما قول : من قال : إن الله ينظر إلى الفقراء في ثلاثة مواطن : عند الأكل والمناصحة والسماع . فهذا القول روي نحوه عن بعض الشيوخ قال : إن الله ينظر إليهم عند الأكل ; فإنهم يأكلون بإيثار [ ص: 128 ] وعند المجاراة في العلم . لأنهم يقصدون المناصحة وعند السماع ; لأنهم يسمعون لله . أو كلاما يشبه هذا . والأصل الجامع في هذا أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله - وهو ما كان لله بإذن الله - فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة . والعمل الصالح هو الخالص الصواب . فالخالص ما كان لله والصواب ما كان بأمر الله ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله ومنها ما لا يحبه الله ومنها ما يشتمل على خير وشر وحق وباطل ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه .
فصل وما يفعله بعض الناس من تحري الصلاة والدعاء عند ما يقال : إنه قبر نبي أو قبر أحد من الصحابة والقرابة أو ما يقرب من ذلك أو إلصاق بدنه أو شيء من بدنه بالقبر أو بما يجاور القبر من عود وغيره . كمن يتحرى الصلاة والدعاء في قبلي شرقي جامع دمشق عند الموضع الذي يقال إنه قبر هود - والذي عليه العلماء أنه قبر nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية بن أبي سفيان - أو عند المثال الخشب الذي يقال تحته رأس nindex.php?page=showalam&ids=17313يحيى بن زكريا ونحو ذلك : فهو مخطئ مبتدع مخالف للسنة ; فإن [ ص: 129 ] الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا كانوا يفعلون ذلك ; بل كانوا ينهون عن مثل ذلك كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب ذلك ودواعيه وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به فكيف إذا قصدوا ذلك .
وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبي أو ولي فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها : إن الدعاء فيه أفضل من غيره ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين . فأصله من دين المشركين ; لا من دين عباد الله المخلصين ; كاتخاذ القبور مساجد ; فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة ; مضاهاة لمن لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى .
وأما قول القائل : أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان أو بالبيت الحرام أو بزمزم والمقام أو بالطور والبيت المعمور ونحو ذلك . فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعين لهم بإحسان بل قد نص غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه - كأبي يوسف وغيره من العلماء - على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء فإنه أقسم على الله بمخلوق ولا يصح القسم بغير الله وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته .
أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة والدعاء سبب للإجابة فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب وهذا معنى ما يروى في دعاء الخروج إلى الصلاة : " { nindex.php?page=hadith&LINKID=108415اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا } وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة . فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم وبطاعتهم كالصلاة والسلام عليهم ومحبتهم وموالاتهم أو بدعائهم وشفاعتهم . وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضي حصول مطلوب العبد وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم وليس [ ص: 134 ] في ذلك ما يقتضي إجابة دعاء غيرهم إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم أو بسبب منهم إليه : كدعائهم له وشفاعتهم فيه . فهذان الشيئان يتوسل بهما .
وأما الإقسام بالمخلوق فلا . وما يذكره بعض العامة من قوله : " { إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم } حديث كذب موضوع .
فصل وأما قول السائل : هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران ; لكون النبي صلى الله عليه وسلم رئي عنده . فيقال : بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب الذين نهينا عن التشبه بهم فيها . وقد ثبت أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب كان في السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا فقال : ما هذا فقالوا : مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أسفاره [ ص: 135 ] في مواضع وكان المؤمنون يرونه في المنام في مواضع وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا . ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات ; فإنهم لا يزالون يرون النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد جاء إلى بيوتهم ومنهم من يراه مرارا كثيرة وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة .
وأما ما يزيده الكذابون على ذلك مثل أن يرى في المكان أثر قدم فيقال : هذا قدمه ونحو ذلك : فهذا كله كذب والأقدام الحجارة التي ينقلها من ينقلها ويقول : إنها موضع قدمه كذب مختلق ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا ومزارا بل لم يأمر الله أن يتخذ مقام نبي من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } كما أنه لم يأمر بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجا إلى غير البيت العتيق أو صيام شهر مفروض غير صيام شهر رمضان وأمثال ذلك .
فصخرة بيت المقدس لا يسن استلامها ولا تقبيلها باتفاق المسلمين بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد . والصلاة والدعاء في قبلة المسجد الذي بناه nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب للمسلمين [ ص: 136 ] أفضل من الصلاة والدعاء عندها nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار : أين ترى أن أبني مصلى المسلمين ؟ قال : ابنه خلف الصخرة . قال خالطتك يهودية يا ابن اليهودية بل أبنيه أمامها ; فإن لنا صدور المساجد . فبنى هذا المصلى الذي تسميه العامة " الأقصى " . ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها كيف وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال . والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك . وكان nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلي فيه ولا يأتي الصخرة وكذلك غيره من السلف . وكذلك حجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وحجرة الخليل وغيرهما من المدافن التي فيها نبي أو رجل صالح : لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة ; بل منهي عن ذلك . وأما السجود لذلك فكفر وكذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب : مثل قول القائل : اغفر لي ذنوبي أو انصرني على عدوي ونحو ذلك .
وكانت " حجرة النبي صلى الله عليه وسلم " خارجة عن مسجده فلما كان في إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز [ ص: 141 ] - عامله على المدينة النبوية - أن يزيد في المسجد . فاشترى حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت شرقي المسجد وقبلته فزادها في المسجد فدخلت الحجرة إذ ذاك في المسجد وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إليها .
وكذلك " قبر إبراهيم الخليل " لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليماني ولا يدخل إليه أحد ولا يصلي أحد عنده بل كان مصلى المسلمين بقرية الخليل بمسجد هناك وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إلى أن نقب ذلك السور ثم جعل فيه باب . ويقال : إن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا ; ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون في ذلك المكان . هذا إذا كان القبر صحيحا فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب مثل القبر الذي يقال إنه " قبر نوح " فإنه كذب لا ريب فيه وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة وكذلك قبر غيره .
وهذا هو أصل الإسلام وهو أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى : { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } وقال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال : nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه . قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والكتاب .
هذا كله لأن دين الله بلغه عنه رسوله . فلا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله . والله تعالى ذم المشركين لأنهم شرعوا [ ص: 149 ] في الدين ما لم يأذن به الله فحرموا أشياء لم يحرمها الله : كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وشرعوا دينا لم يأذن به الله كدعاء غيره وعبادته والرهبانية التي ابتدعها النصارى .