[ ص: 182 ] وقال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=16995محمد بن عبد الهادي : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين . أما بعد فهذه فتيا أفتى بها الشيح الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة أنكرها بعض الناس وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور وذكرت بعبارات شنيعة : ففهم منها جماعة غير ما هي عليه وانضم إلى الإنكار والشناعة وتغير الألفاظ أمور أوجب ذلك كله مكاتبة السلطان - سلطان الإسلام بمصر - أيده الله تعالى فجمع قضاة بلده ثم اقتضى الرأي حبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة بكتاب ورد سابع شعبان المبارك سنة ست وعشرين وسبعمائة . وفي ذلك كله لم يحضر الشيخ المذكور بمجلس حكم ولا وقف على خطه الذي أنكر ولا ادعى عليه بشيء . فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا وأوقف عليها بعض علماء بغداد فكتبوا عليها بعد تأملها وقراءة ألفاظها . [ ص: 183 ] وسئل بعض مالكية دمشق عنها فكتبوا كذلك . وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق . ونبدأ الآن بذكر السؤال الذي كتب عليه أهل بغداد وبذكر الفتيا وجواب الشيخ المذكور عليها وجواب الفقهاء بعده .
وهذه صورة السؤال والأجوبة . المسئول من إنعام السادة العلماء والهداة الفضلاء أئمة الدين وهداة المسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الهداية : أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه وصورة ذلك : ما يقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين : في رجل نوى السفر إلى " زيارة قبور الأنبياء والصالحين " مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره . فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة ؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا ؟ ؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حج ولم يزرني فقد جفاني } { nindex.php?page=hadith&LINKID=36462ومن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي } [ ص: 184 ] وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=25763لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى } . أفتونا مأجورين رحمكم الله .
فأجاب الحمد لله رب العالمين . أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة ؟ على قولين معروفين : أحدهما وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين : أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر لأنه سفر منهي عنه . ومذهب مالك والشافعي وأحمد : أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه .
والقول الثاني : أنه يقصر وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة . ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي [ ص: 185 ] وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي . وهؤلاء يقولون : إن هذا السفر ليس بمحرم . لعموم قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=19803زوروا القبور } .
قالوا : ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة .
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في " الإبانة الصغرى " من البدع المخالفة للسنة والإجماع .
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسي ; لأن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر .
وقوله : بأن الحديث الذي مضمونه { nindex.php?page=hadith&LINKID=25763لا تشد الرحال } محمول على نفي الاستحباب . يجاب عنه بوجهين : [ ص: 188 ] أحدهما : أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات . فإذا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع . وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين . فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك .
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح فكذا جائز وليس من هذا الباب .
الوجه الثاني : أن هذا الحديث يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم . وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بأحاديث ; بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك - إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة - كره أن يقول الرجل : زرت قبره صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم أهل المدينة .
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة : لما سئل عن ذلك لم [ ص: 189 ] يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600061ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه . وكذلك مالك في الموطأ روى عن nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر : أنه كان إذا دخل المسجد قال : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف .
وهذا كله محافظة على التوحيد . فإن من أصول الشرك بالله : اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } قالوا : " هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها " وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس . وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره " وثيمة " وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق . وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع .