صفحة جزء
و " أصل الإيمان " توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له والإيمان برسله كما قال تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين } { عما كانوا يعملون } قال أبو العالية : خلتان تسأل العباد يوم القيامة عنهما : عما كانوا يعملون وعما أجابوا الرسل . ولهذا يقرر الله هذين الأصلين في غير موضع من القرآن بل يقدمهما على كل ما سواهما ; لأنهما أصل الأصول : مثلما ذكر في " سورة البقرة " فإنه افتتحها بذكر أصناف الخلق وهم ثلاثة : مؤمن وكافر ومنافق . وهذا التقسيم كان لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . فإن مكة لم يكن بها نفاق ; بل إما مؤمن ; وإما كافر . و " البقرة " مدنية من أوائل ما نزل بالمدينة فأنزل الله أربع آيات في ذكر المؤمنين وآيتين في ذكر الكافرين وبضع عشرة آية في صفة المنافقين . وافتتحها بالإيمان بجميع الكتب والأنبياء ووسطها بذلك وختمها [ ص: 275 ] بذلك . قال في أولها : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } .

والصحيح في قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أنه والذي قبله صفة لموصوف واحد ; فإنه لا بد من الإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله والعطف لتغاير الصفات كقوله : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } وقوله : { الذي خلق فسوى } { والذي قدر فهدى } { والذي أخرج المرعى } وقوله : { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم عن اللغو معرضون } - إلى قوله - { أولئك هم الوارثون } { الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } . ومن قال : { الذين يؤمنون بالغيب } أراد به مشركي العرب وقوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أن المراد به أهل الكتاب : فقد غلط ; فإن مشركي العرب لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله فلم يكونوا مفلحين . وأهل الكتاب إن لم يؤمنوا بالغيب ويقيموا الصلاة ومما رزقناهم ينفقون لم يكونوا مفلحين ; ولهذا قال تعالى : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فدل على أنهم صنف واحد .

[ ص: 276 ] وقال في وسط السورة : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } فأمر بالإيمان بكل ما أوتي النبيون من ربهم وقد قال في أثنائها : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وختمها بقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } .

ثم إنه بعد تقسيم الخلق قرر أصول الدين . فقرر التوحيد أولا ثم النبوة ثانيا بقوله : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } { الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } ثم قرر النبوة بقوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين } { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فأخبر أنهم لا يفعلون ذلك كما قال : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } . ثم ذكر الجنة . فقرر التوحيد والنبوة والمعاد . وهذه أصول الإيمان .

[ ص: 277 ] وفي آل عمران قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل } { من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان } . فذكر التوحيد أولا ثم الإيمان بما جاءت به الرسل ثانيا وذكر أنه أنزل الكتاب والفرقان كما قال : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } . ولفظ " الفرقان " يتناول ما يفرق بين الحق والباطل مثل الآيات التي بعث بها الأنبياء : كالحية واليد البيضاء وانفلاق البحر . والقرآن فرقان بين هذا الوجه : من جهة أنه آية عظيمة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلم عظيم . وهو أيضا فرقان باعتبار أنه فرق ببيانه بين الحق والباطل كما قال : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } ولهذا فسر جماعة الفرقان هنا به . ولفظ " الفرقان " أيضا يتناول نصر الله لأنبيائه وعباده المؤمنين وإهلاك أعدائهم ; فإنه فرق به بين أوليائه وأعدائه وهو أيضا من الأعلام قال تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } .

والآيات التي يجعلها الله دلالة على صدق الأنبياء هي مما ينزله كما قال : { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية } وقال : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } وقال تعالى : { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } . وبسط هذا له موضع آخر .

[ ص: 278 ] والمقصود هنا : التنبيه . وكذلك في " سورة يونس " قال تعالى : { أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } ثم قال : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } وفي سورة " الم السجدة " قال تعالى : { الم } { تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } { أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون } { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } وقال : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } { ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } . ومن هذا قوله تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } وقوله : { فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } وقوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وقوله : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } ثم قال : [ ص: 279 ] { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } وقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص تارة وتارة قوله تعالى { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم } الآيات . وفي الثانية { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .

وهذا باب واسع ; لأن الناس مضطرون إلى هذين الأصلين فلا ينجون من العذاب ولا يسعدون إلا بهما . فعليهم أن يؤمنوا بالأنبياء وما جاءوا به وأصل ما جاءوا به أن لا يعبدوا إلا الله وحده كما قال : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .

والأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ كلامه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وأنبائه التي أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون وليسوا وسائط في خلقه لعباده ولا في رزقهم وإحيائهم وإماتتهم ولا [ ص: 280 ] جزائهم بالأعمال وثوابهم وعقابهم ولا في إجابة دعواتهم وإعطاء سؤالهم ; بل هو وحده خالق كل شيء وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } وقال تعالى : { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } { وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون } كما قال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } .

فبين أن كل ما يدعى من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة ولا لأحد منهم شرك معه ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } فالأمر في الشفاعة إليه وحده كما قال تعالى : { قل لله الشفاعة جميعا } وقال : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } . وقوله { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } استثناء منقطع في أصح القولين .

فانقسم الناس فيهم " ثلاثة أقسام " : قوم أنكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل : مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين ; فإنهم كذبوا جنس الرسل ; يؤمنوا ببعضهم دون بعض . ومن هؤلاء منكرو النبوات من البراهمة وفلاسفة الهند المشركين وغيرهم من المشركين وكل من كذب الرسل لا يكون إلا مشركا وكذلك من كذب ببعضهم دون بعض كما قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا } .

فكل من كذب محمدا أو المسيح أو داود أو سليمان أو غيرهم من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسى : فهو كافر قال تعالى : { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } وقال تعالى : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } وقال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات ويجعل مقصودها التخييل فقط . قال تعالى : { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر } فهؤلاء مكذبون بالنبوات . ومنهم من يجعلهم مخصوصين بعلم ينالونه بقوة قدسية بلا تعلم ; ولا يثبت ملائكة تنزل بالوحي . ولا كلاما لله يتكلم به بل يقولون إنه لا يعلم الجزئيات فلا يعلم لا موسى ولا محمدا ولا غيرهما من الرسل ويقولون : خاصية النبي - هذه القوة العلمية القدسية - قوة يؤثر بها في العالم وعنها تكون الخوارق وقوة تخيلية وهو أن تمثل له الحقائق في صور خيالية في نفسه فيرى في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه كلاما . فهذا هو النبي عندهم . وهذه الثلاث توجد لكثير من آحاد العامة الذين غيرهم من النبيين أفضل منهم . وهؤلاء وإن كانوا أقرب من الذين قبلهم فهم من المكذبين للرسل .

وكثير من أهل البدع يقر بما جاءوا به إلا في أشياء تخالف رأيه فيقدم رأيه على ما جاءوا به ويعرض عما جاءوا به فيقول : إنه لا يدري ما أرادوا به أو يحرف الكلم عن مواضعه . وهؤلاء موجودون في أهل الكتاب وفي أهل القبلة ولهذا ذكر الله في أول البقرة المؤمنين والكافرين ; ثم ذكر المنافقين وبسط القول فيهم .

[ ص: 283 ] وقسم ثان غلوا في الأنبياء والصالحين وفي الملائكة أيضا : فجعلوهم وسائط في العبادة فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى وصوروا تماثيلهم وعكفوا على قبورهم . وهذا كثير في النصارى ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة ; ولهذا ذكر الله هذا الصنف في القرآن في " آل عمران " وفي " براءة " في ضمن الكلام على النصارى وقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } وقال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . وهذا الذي أمره الله أن يقوله لهم هو الذي كتب إلى هرقل ملك الروم .

وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا استشفعوا بهم شفعوا لهم وأن من قصد معظما من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله كما يشفع خواص الملوك عندهم . وقد أبطل الله هذه الشفاعة في غير [ ص: 284 ] موضع من القرآن وبين الفرق بينه وبين خلقه ; فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محبة أو نحو ذلك فيكون الشفيع شريكا للمشفوع إليه . وهذه الشفاعة منتفية في حق الله قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } .

وهؤلاء يحجون إلى قبورهم ويدعونهم ; وقد يسجدون لهم وينذرون لهم وغير ذلك من أنواع العبادات . وهؤلاء أيضا مشركون . وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاءوا به وبين الشرك فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق وتكذيب رسله ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل . فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته .

فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء بل يثبتون أنهم وسائط في التبليغ عن الله ويؤمنون بهم ويحبونهم ولا يحجون إلى قبورهم ولا يتخذون قبورهم مساجد . وذلك تحقيق " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " . فإظهار ذكرهم وما جاءوا به هو من الإيمان بهم وإخفاء قبورهم لئلا يفتتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده . والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا .

[ ص: 285 ] ولهذا تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين : من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . من مشايخ العلم والدين والعدل من ولاة الأمور : ما يوجب معرفة ذلك الشخص والثناء عليه والدعاء له وأن يكون له لسان صدق وما ينتفع به : إما كلام له ينتفع به وإما عمل صالح يقتدى به فيه . فإن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - يقصد الانتفاع بما قالوه وأخبروا به وأمروا به والاقتداء بهم فيما فعلوه - صلوات الله عليهم أجمعين .

وأما أهل الضلال - كالنصارى وأهل البدع - فهم مع غلوهم وتعظيمهم لقبورهم وتماثيلهم والاستشفاع بهم لا تجد عندهم من أخبارهم ما يعرف صدقه من كذبه ; بل قد التبس هذا بهذا ولا يكاد أحد من علمائهم يميز فيما هم عليه من الدين بين ما جاء عن المسيح وما جاء عن غيره : إما من الأنبياء . وإما من شيوخهم بل قد لبسوا الحق بالباطل .

وكذلك أهل الضلال والبدع من أهل القبلة : تجدهم يعظمون شيخا أو إماما أو غير ذلك ويشركون به ويدعونه من دون الله ويستغيثون به وينذرون له ويحجون إلى قبره . وقد يسجدون له وقد يعبدونه أعظم مما يعبدون الله كما يفعل النصارى وهم مع ذلك من أجهل الناس بأحواله : ينقلون عنه أخبارا مسيبة ليس لها إسناد [ ص: 286 ] ولا يعرف صدقها من كذبها ; بل عامة ما يحفظونه ما فيه غلو وشطح للإشراك به . فأهل الإسلام الذين يعرفون دين الإسلام ولا يشوبونه بغيره يعرفون الله ويعبدونه وحده ويعرفون أنبياءه فيقرون بما جاءوا به ويقتدون به ويعرفون أهل العلم والدين وينتفعون بأقوالهم وأفعالهم . وأهل الضلال في ظلمة لا يعرفون الله ولا أنبياءه . ولا أولياءه ولا يميزون بين ما أمر الله به وما نهى عنه وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .

ولا ريب أن في أهل القبلة من يشبه اليهود والنصارى في بعض الأمور كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى . قال : فمن } وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها : شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا : يا رسول الله فارس والروم ؟ قال : فمن الناس إلا هؤلاء ؟ .

ومشابهتهم في الشرك بقبور الأنبياء والصالحين هو من مشابهتهم التي حذر منها أمته قبل موته في صحته ومرضه وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 287 ] قبل أن يموت بخمس وهو يقول : } إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك { . وأما لعنه لمن فعل ذلك : ففي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : } لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد { يحذر ما صنعوا . وفي الصحيحين عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ; غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا وفي لفظ : غير أنه خشي أو خشي . وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } هذا لفظ مسلم وله وللبخاري : { قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وفي الصحيحين عن عائشة : { أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أولئك إذا مات فيهم [ ص: 288 ] الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة } وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : { إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد } .

وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر . وقد بسط الكلام في هذا الباب في الرد على من هو أفضل من هذا وبين ما خالفوا فيه الكتاب والسنة والإجماع في هذا الباب وفي غيره . ولما كان أولئك أعلم وأفضل كان الرد عليهم بحسبهم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية