قال
شيخ الإسلام أسكنه الله الجنة آمين بسم الله الرحمن الرحيم . ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
[ ص: 290 ] فصل في الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا وبيان بطلان ذلك وأن الحكم به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة : قد بسطت في غير هذا الموضع . وهي خمسون وجها : تبين بطلان ما كتب به وبطلان الحكم به .
الأول : أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل . ومثل هذا باطل بالإجماع ; فإنه نقل أن المجيب قال : إن زيارة الأنبياء بدعة أو أنه ذكر نحو ذلك والمجيب لم يذكر ذلك ولا نقل ذلك عن أحد من العلماء ; وإنما في الجواب ذكر قول العلماء فيمن
سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين . هل يحرم هذا السفر أو يجوز وأن الطائفتين اتفقوا على أنه غير مستحب . والطائفتان لم يقولا ذلك في الزيارة المطلقة بل جمهورهم يقولون : إن زيارة القبور مستحبة وهذا هو الصحيح كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ; ولكن لا يقولون : إنه يستحب السفر إليها كما اتفق المسلمون على أنه يشرع إتيان المساجد غير المساجد الثلاثة وأن إتيانها
[ ص: 291 ] قد يكون فرضا وقد يكون سنة : مثل إتيانها للجمعة والجماعة . واتفقوا على أن
السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بفرض ولا سنة فهكذا زيارة القبور على الوجه الشرعي مستحبة وهي سنة والسفر إلى ذلك ليس بفرض ولا سنة عند الطائفتين .
والمجيب لم يذكر لنفسه في الجواب قولا ; بل حكى أقوال علماء المسلمين وأدلتهم وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله واستدلوا بما لا ينازع فيه وأخطئوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع وفيما استدلوا به عليه وذلك من وجوه كثيرة جدا ولكن مقصود هذا الوجه : أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل وأنه قال : إن زيارة الأنبياء بدعة وهذا باطل عنه . والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع .
الوجه الثاني : أن الطائفتين من علماء المسلمين اتفقوا على أن
السفر لمجرد زيارة القبور ليس بفرض ولا سنة وهؤلاء جعلوا السفر إلى زيارة القبور سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسن لأمته السفر لذلك ولا قال علماء شريعته إن السفر إليها سنة . فقد حكموا بما يخالف السنة والإجماع وهذا الحكم باطل بالإجماع . وذلك أن المجيب ذكر القولين - فيمن لم يسافر إلا إلى القبور ولم يقصد مع ذلك المسجد - قول من جوز ذلك ولم يستحبه
[ ص: 292 ] وقول من حرمه . وهم لم يقتصروا على رد أحد القولين فإن هذا لا يناقض ما ذكره المجيب بل قالوا : وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند العلماء ومتى ما بطل ما ذكره في الجواب بالقولين تعين جعل السفر سنة مستحبة .
وأيضا فإنهم احتجوا بنقل من نقل الإجماع على استحباب السفر الذي ذكر فيه القولين .
الثالث : أنهم احتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها . وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة لا على السفر لمجرد القبر . ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر لا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعا فالمجيب لم يذكر القولين في هذه الصورة وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور والجواب لم يكن في خصوص قبر النبي صلى الله عليه وسلم بل كان في جنس القبور . وجعلوا ذلك إجماعا على السفر إلى سائر قبور الأنبياء فإن المجيب فرق بين
الزيارة النبوية الشرعية التي أجمع المسلمون على استحبابها وبين ما أجمعوا على أنه لا يستحب وما تنازعوا فيه وما نقلوه من الإجماع وإن كان عندهم لا يدل على مثل ما ذكره المجيب لم يكن حجة عليه وهم جعلوه حجة
[ ص: 293 ] على بطلان الجواب وذلك إنما يكون إذا قيل باستحباب السفر مطلقا فغلطوا على من نقل الإجماع فلم يفهموا مراده وحكموا بناء على هذا الاعتقاد الباطل ومثل ذلك باطل بالإجماع .
الرابع : أنهم جعلوا هذا النقل مخالفا للجواب وليس مخالفا له ; بل المفتي قد ذكر في الجواب استحباب العلماء لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحك عن أحد أنه قال :
زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم محرمة والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع .
الخامس : أن هؤلاء جعلوا جنس الزيارة مستحبا بالإجماع ولم يفصلوا بين المشروع والمحرم . والزيارة بعضها مشروع وبعضها محرم بالإجماع كما ذكر ذلك في جواب الفتيا وهم أنكروا هذا التفصيل وهذا مخالف للإجماع والحكم به باطل بالإجماع . فإن المجيب لم ينكر السفر للزيارة الشرعية بالإجماع ; بل بين في الجواب ما أجمع عليه المسلمون من السفر ومن الزيارة . وهذا مبسوط في مواضع كثيرة من كلامه مشهور عنه . وذكر ما تنازعوا فيه وما اتفقوا على النهي عنه . فلو وافقوا على التفصيل لم ينكروا الجواب فلما جعلوا الجواب باطلا عند العلماء تبين أنهم لم يفصلوا .
[ ص: 294 ] السادس : أن الزيارة ثلاثة أنواع : نوع اتفق العلماء على استحبابه . ونوع اتفقوا على النهي عنه . ونوع تنازعوا فيه . وفي الجواب ذكر الأنواع الثلاثة . وهؤلاء لم يفصلوا بين ما أجمع عليه وبين ما تنازع العلماء فيه ولا ذكروا أن ما تنازع فيه العلماء يرد إلى الله والرسول ; بل جعلوه مردودا بمجرد قولهم وهذا باطل بالإجماع . والحكم بذلك باطل بالإجماع . والمجيب إنما ذكر اتفاق الطائفتين على أن السفر غير مستحب إذا
سافر لمجرد زيارة قبر بعض الأنبياء والصالحين وهذا منتف في الغالب في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإن من هو عارف بشريعة الإسلام لا بد أن يقصد المسجد مع القبر ; لا سيما مع علمه بأنه صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=108236صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام } . ولهذا احتج طائفة من العلماء على استحباب زيارة قبره بهذا الحديث . وهذه الزيارة التي يفعلها من يعلم الشريعة لم يذكر المجيب أنها لا تستحب بالإجماع . وكيف يقول ذلك واستحبابها موجود في كلام العلماء
السابع : أن الإجماع على أن الزيارة سنة وفضيلة ليس هو إجماعا على كل ما يسمى زيارة ولا على هذا اللفظ ; بل هو إجماع على ما شرعه الله من حقوقه في مسجده . وهل يكره أن يسمى ذلك زيارة لقبره على قولين . وكثير مما يسمى زيارة لقبره فيه نزاع أو هو منهي
[ ص: 295 ] عنه بالإجماع وهؤلاء جعلوا الإجماع متناولا لما تنازع العلماء فيه واحتجوا بالإجماع في موارد النزاع وهذا خطأ .
الثامن : أن
ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول ; بل قالوا إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بالإجماع .
التاسع : أن الذين حكوا الإجماع على استحباب السفر لمجرد زيارة القبر بل الإجماع إنما هو على استحباب السفر إلى مسجده . وأما السفر لمجرد القبر فهذا فيه النزاع المشهور . وما فيه نزاع يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوا ما تنازع العلماء فيه إلى الله والرسول ; بل ادعوا فيه الإجماع وغلطوا على من حكوا عنه الإجماع ومن زجر عن قول لكونه مخالفا للإجماع ولم يكن مخالفا للإجماع كان هو المخطئ بالإجماع .
العاشر : أن
ما لا إجماع فيه يجب رده إلى الله والرسول بالإجماع وإن احتج فيه بالكتاب والسنة كان هو المصيب والجواب فيه ذكر النزاع والاحتجاج بالكتاب والسنة في موارد النزاع وهؤلاء جعلوا ذلك مردودا ولم يردوه إلى الله والرسول ; بل ردوا على من احتج
[ ص: 296 ] بالكتاب والسنة في مسائل النزاع وحكموا بهذا الرد المخالف للإجماع . والحكم بمثل ذلك باطل بالإجماع .
الحادي عشر : أن الذي ذكر في الفتيا ما أجمع عليه كالزيارة المستحبة وما أجمعوا على النهي عنه وما تنازعوا فيه وهذا أقصى ما يكون عند المفتين . وهؤلاء جعلوا ذلك من الفتاوى الباطلة عند العلماء وهذا التفصيل ليس باطلا عند أحد من علماء المسلمين وهم جعلوه باطلا وحكموا بذلك ومثل هذا الحكم باطل بالإجماع .