فمن
سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده ; وصلى في مسجد قباء وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح . ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل . وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده
وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع
[ ص: 343 ] ضال مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته . وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما أنه محرم والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له . والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية : يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة وهذا مشروع باتفاق المسلمين .
وقد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه . وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا مع أن فيه نزاعا ; إذ من العلماء من لا يستحب
زيارة القبور مطلقا ومنهم من يكرهها مطلقا كما نقل ذلك عن
إبراهيم النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجلة
التابعين . ونقل ذلك عن
مالك . وعنه أنها مباحة ليست مستحبة . وهو أحد القولين في مذهب
أحمد ; لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور : أن الزيارة الشرعية مستحبة . وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم فيسلم عليهم ويدعو لهم .
وتزار قبور الكفار ; لأن ذلك يذكر الآخرة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور [ به ] في حق الرسول في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها وعند الأذان وعند كل دعاء . وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد
[ ص: 344 ] ونهى أن يتخذ قبره عيدا وسأل الله أن لا يجعله وثنا يعبد . فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره . وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه الله وفضله به على غيره وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره - وإن كان جائزا .
وأما "
اتخاذ القبور مساجد " فهذا ينهى عنه عند كل قبر وإن كان المصلي إنما يصلي لله ولا يدعو إلا الله . فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة وأما إذا قدر أن من أتى المسجد فلم يصل فيه ; ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة
كمالك وغيره وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح ؟ وما علمنا أحدا من علماء المسلمين استحب مثل هذا بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد وجعلوا هذا من السفر المنهي عنه . ولا كان أحد من
السلف يفعل هذا بل كان
الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل
أبي بكر وعمر وعثمان وعلي يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه . ولم
[ ص: 345 ] يكونوا يذهبون إلى القبر . وهذا متواتر عنهم لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلى خلف
الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها . وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم .
فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره فكيف يقصدون أن يسافروا إليه ؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد ؟ ومن قال : إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه وعلماء أمته . قال تعالى : {
ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } . و {
nindex.php?page=hadith&LINKID=96591إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
} . وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده وذكروا زيارة قبره المكرم وما علمت أحدا من المسلمين قال إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحبا . ولو قالوا ذلك في قبر غيره . لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وغايته أن يعذر بجهله
[ ص: 346 ] ويعفو الله عنه . وأما من يعرف ما أمر الله به ورسوله وما نهى الله عنه ورسوله فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر لا نبي ولا غير نبي بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب
مالك والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وغيرهم . وإنما قال إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب
الشافعي وأحمد .