صفحة جزء
[ ص: 7 ] المسئول من السادة العلماء القادة الفضلاء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - أن يخبرونا بفضائل الرمي وتعليمه ; وما ورد فيمن تركه بعد تعلمه ; وأيما أفضل الرمي بالقوس أو الطعن بالرمح ؟ أو الضرب بالسيف ؟ وهل لكل واحد منهم علم يختص به ومحل يليق به ؟ .

وإذا علم رجل رجلا الرمي أو الطعن وغيرهما من آلات الحرب والجهاد في سبيل الله تعالى وجحد تعليمه ; وانتقل إلى غيره وانتمى إليه : هل يأثم بذلك أم لا ؟ وإذا قال قائل لهذا المنتقل : أنت مهدور أو تقتل : أثم بذلك أم لا ؟ وإن زاد فقال له : أنت لقيط أو ولد زنا : يعد قذفا ويحد بذلك أم لا ؟ .

وهل يحل للأستاذ الثاني أن يقبل هذا المنتقل ويعزره على جحده لمعلمه ؟ وإذا قال المنتقل : أنا أنتمي إلى فلان تعليما وتخريجا وإلى فلان إفادة وتفهيما : هل يسوغ له ذلك أم لا ؟ وهل للمبتدئ أن [ ص: 8 ] يقوم في وسط جماعة من الأستاذين والمتعلمين ويقول : يا جماعة الخير أسأل الله تعالى وأسألكم أن تسألوا فلانا أن يقبلني أن أكون له أخا أو رفيقا أو غلاما أو تلميذا أو ما أشبه ذلك ; فيقوم أحد الجماعة فيأخذ عليه العهد ويشترط عليه ما يريده ويشد وسطه بمنديل أو غيره : فهل يسوغ هذا الفعل أم لا ؟ لما يترتب عليه من المحاماة والعصبية لأستاذ ; بحيث يصير لكل من الأستاذين إخوان ورفقاء وأحزاب وتلامذة يقومون معه إذا قام بحق أو باطل ويعادون من عاداه ويوالون من والاه .

وهل إذا اجتمعوا للرمي على رهن هل يحل أم لا ؟ وهل يقدح في عدالة الأستاذ إذا فعل التلامذة ما لا يحل في الدين ويقرهم على ذلك ؟ وهل إذا شد المعلم للتلميذ وحصل بذلك هبة وكرامة - وجميع ذلك في العرف يرجع إلى الأستاذ - يحل له تناوله أم لا ؟ وهل للأستاذ أن يقبل أجرة أو هبة أو هدية ؟ فإن المعلم تلحقه كلفة من آلات وغيرها .

أفتونا مأجورين وأرشدونا رضي الله عنكم أجمعين .


فأجاب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين . الرمي في سبيل الله والطعن في سبيل [ ص: 9 ] الله . والضرب في سبيل الله : كل ذلك مما أمر الله تعالى : به ورسوله وقد ذكر الله تعالى الثلاثة فقال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } وقال تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } وقال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم } وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر هذه الآية فقال : " { ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي } .

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : " { ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا } . وفي رواية : " { ومن تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها } . وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل ; إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته . فإنهن من الحق } . وقال : " { ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه } .

وقال مكحول : كتب عمر بن الخطاب إلى الشام : أن علموا [ ص: 10 ] أولادكم الرمي والفروسية .

وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { ارموا بني إسماعيل ; فإن أباكم كان راميا } . { ومر على نفر من أسلم ينتضلون فقال صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل ; فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال : ما لكم لا ترمون ؟ قالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال : ارموا وأنا معكم كلكم } .

وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه { نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني نفض كنانته يوم أحد - وقال : ارم فداك أبي وأمي } وقال علي بن أبي طالب : { ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد : قال له : ارم سعد فداك أبي وأمي } .

وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة } وكان إذا كان في الجيش جثا بين يديه ونثر كنانته فقال : نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء . وكان النبي صلى الله عليه وسلم له السيف والقوس والرمح . وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ ص: 11 ] " { من رمى بسهم في سبيل الله - بلغ العدو أو لم يبلغه - كانت له عدل رقبة } .

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ; والرامي به والممد به } وهذا لأن هذه الأعمال هي أعمال الجهاد والجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان وتطوعه أفضل من تطوع الحج وغيره كما قال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون } { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } { خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } .

وفي الصحيح { أن رجلا قال : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام فقال علي بن أبي طالب : الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله . فقال عمر بن الخطاب لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته عن ذلك . فسأله ; فأنزل الله هذه الآية } فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن [ ص: 12 ] الإحسان إلى الحجاج بالسقاية ; ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود .

ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضل من صلاة التطوع .

وأما في الأمصار البعيدة من العدو فهو نظير صلاة التطوع . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله } .

وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل فيه من غيره فالسيف عند مواصلة العدو والطعن عند مقاربته والرمي عند بعده أو عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك . فكلما كان أنكى في العدو وأنفع للمسلمين فهو أفضل . وهذا يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين في العدو . ومنه ما يكون الرمي فيه أنفع ومنه ما يكون الطعن فيه أنفع . وهذا مما يعلمه المقاتلون .

[ ص: 13 ] فصل وتعلم هذه الصناعات هو من الأعمال الصالحة لمن يبتغي بذلك وجه الله عز وجل فمن علم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به لا ينقص أحدهما من الأجر شيئا كالذي يقرأ القرآن ويعلم العلم . وعلى المتعلم أن يحسن نيته في ذلك ويقصد به وجه الله تعالى وعلى المعلم أن ينصح للمتعلم ويجتهد في تعليمه وعلى المتعلم أن يعرف حرمة أستاذه ويشكر إحسانه إليه ; فإنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله ولا يجحد حقه ولا ينكر معروفه .

وعلى المعلمين أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " { المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه } . وقوله : " { مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } . وقوله صلى الله عليه وسلم " { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه } . وقوله : " { المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه } وقال صلى الله عليه وسلم " { لا تحاسدوا [ ص: 14 ] ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا } . وهذا كله في الصحيح .

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : صلاح ذات البين ; فإن فساد ذات البين هي الحالقة ; لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين } .

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { تفتح أبواب الجنة كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا ; إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء ; فيقال : أنظروا هذين حتى يصطلحا } . وقال صلى الله عليه وسلم " { لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ; يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } .

وليس لأحد من المعلمين أن يعتدي على الآخر ولا يؤذيه بقول ولا فعل بغير حق ; فإن الله تعالى يقول : { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } . وليس لأحد أن يعاقب أحدا على غير ظلم ولا تعدي حد ولا تضييع حق ; بل لأجل هواه ; فإن هذا من الظلم الذي حرم الله ورسوله ; فقد قال تعالى : فيما روى [ ص: 15 ] عنه نبيه صلى الله عليه وسلم " { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } .

وإذا جنى شخص فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي أو يقول : أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك فإن هذا من جنس ما يفعله القساقسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم . وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته : أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " { لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق } . وقال : " { من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه } .

فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص ; أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك : نظر فيه فإن كان قد فعل ذنبا شرعيا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة وإن لم يكن أذنب ذنبا شرعيا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره .

وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة [ ص: 16 ] والبغضاء بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى كما قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .

وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده ; وموالاة من يواليه ; ومعاداة من يعاديه بل من فعل هذا كان من جنس جنكيزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا مواليا ومن خالفهم عدوا باغيا ; بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله ; ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله ; ويحرموا ما حرم الله ورسوله ; ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله . فإن كان أستاذ أحد مظلوما نصره وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم بل يمنعه منه ; كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل : يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال : تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه } .

وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق فلا يعاونه بجهل ولا بهوى بل ينظر في الأمر فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره ; وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله ; واتباع الحق والقيام بالقسط قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } يقال : لوى يلوي لسانه : فيخبر بالكذب . والإعراض : أن يكتم الحق ; فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس .

ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء ; فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد ; ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه .

فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده . وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم ; فإن الله تعالى يقول : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } . وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وإذا كان الرجل قد علمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره .

ولا يشد وسطه لا لمعلمه ولا لغير معلمه ; فإن شد الوسط لشخص [ ص: 18 ] معين وانتسابه إليه - كما ذكر في السؤال - : من بدع الجاهلية ; ومن جنس التحالف الذي كان المشركون يفعلونه ; ومن جنس تفرق قيس ويمن فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوى فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان فهذا قد حرمه الله ورسوله . فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف استغناء عن أمر المعلمين وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله .

فليس لمعلم أن يحالف تلامذته على هذا ولا لغير المعلم أن يأخذ أحدا من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعي : لا ابتداء ولا إفادة وليس له أن يجحد حق الأول عليه وليس للأول أن يمنع أحدا من إفادة التعلم من غيره وليس للثاني أن يقول : شد لي وانتسب لي دون معلمك الأول بل إن تعلم من اثنين فإنه يراعي حق كل منهما ولا يتعصب لا للأول ولا للثاني وإذا كان تعليم الأول له أكثر كانت رعايته لحقه أكثر .

وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى لم يكن أحد مع أحد في كل شيء ; بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن [ ص: 19 ] المنكر ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله ; ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله ولا تفرق ولا اختلاف ; ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله .

وحينئذ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد ; ولا ينتمي أحد : لا لقيطا ولا ثقيلا ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية ; فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد فيوالي من يواليه ويعادي من يعاديه مطلقا . وهذا حرام ; ليس لأحد أن يأمر به أحدا ; ولا يجيب عليه أحدا ; بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة ; يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله فلا تكون العبادة إلا لله عز وجل ولا الطاعة المطلقة إلا له سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية - أي من علمه أستاذ كان محالفا له - كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالما باغيا ناقضا لعهده غير موثوق بعقده ; وهذا أيضا حرام وإثم هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله ; بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراما ; فيكون مثل لحم الخنزير الميت فإنه لا [ ص: 20 ] بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول ; بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء . وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية - وهو شبيه بحال هؤلاء - فأنزل الله تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون } { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون } { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم } . وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلما أو فاحشة ولا يدعوا صبيا أمرد يتبرج أو يظهر ما يفتن به الناس ولا أن يعاشر من يتهم بعشرته ولا يكرم لغرض فاسد .

ومن حالف شخصا على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين ولا يجوز أن [ ص: 21 ] يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين ; بل هؤلاء من عسكر الشيطان ولكن يحسن أن يقول لتلميذه : عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان وإذا كان الحق معي نصرت الحق وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل . فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا .

وفي الصحيحين : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } . فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين ; أو يقاتل رياء للناس ليمدحوه ; أو يقاتل لما فيه من الشجاعة : لا يكون قتاله في سبيل الله عز وجل حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنيا على أساس فاسد ليعاون شخصا مخلوقا على شخص مخلوق فمن فعل ذلك كان من أهل الجاهلية الجهلاء والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف ; حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله [ ص: 22 ] ويكونون قائمين بالقسط يوالون لله ورسوله ويحبون لله ويبغضون لله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

وللمعلمين أن يطلبوا جعلا ممن يعلمونه هذه الصناعة ; فإن أخذ الجعل والعوض على تعليم هذه الصناعة جائز والاكتساب بذلك أحسن المكاسب ولو أهدى المعلم لأستاذه لأجل تعليمه وأعطاه ما حصل له من السبق أو غير السبق عوضا عن تعليمه وتحصيله الآلات واستكرائه الحانوت كان ذلك جائزا للأستاذ قبوله وبذل العوض في ذلك من أفضل الأعمال حتى إن الشريعة مضت بأنه يجوز أن يبذل العوض للمسابقين من غيرهما .

فإذا أخرج ولي الأمر مالا من بيت المال للمسابقين بالنشاب والخيل والإبل كان ذلك جائزا باتفاق الأئمة . ولو تبرع رجل مسلم ببذل الجعل في ذلك كان مأجورا على ذلك كذلك ما يعطيه الرجل لمن يعلمه ذلك هو ممن يثاب عليه وهذا لأن هذه الأعمال منفعتها عامة للمسلمين فيجوز بذل العوض من آحاد المسلمين فكان جائزا وإن أخرجا جميعا العوض وكان معهما آخر محللا يكافيها كان ذلك جائزا وإن لم يكن بينهما محلل فبذل أحدهما شيئا طابت به نفسه من غير إلزام له أطعم به الجماعة أو أعطاه للمعلم أو أعطاه لرفيقه : كان ذلك جائزا .

[ ص: 23 ] وأصل هذا أن يعلم أن هذه الأعمال عون على الجهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله مقصوده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا .

وجماع الدين شيئان : أحدهما : أن لا نعبد إلا الله تعالى . والثاني : أن نعبده بما شرع ; لا نعبده بالبدع كما قال تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه . قيل له : ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ; وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص : أن يكون لله . والصواب : أن يكون على السنة .

وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا ; واجعله لوجهك خالصا ; ولا تجعل لأحد فيه شيئا .

وهذا هو دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو الاستسلام لله وحده . فمن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته وقد قال تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ومن استسلم لله ولغيره كان مشركا ; فقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولهذا كان لله حق لا يشركه فيه أحد من المخلوقين فلا يعبد إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يتقي إلا الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يدعو إلا الله كما قال تعالى : { فإذا فرغت فانصب } { وإلى ربك فارغب } " وقال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } . وقال تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فالطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده .

وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } . فالرغبة إلى الله وحده والتحسب بالله وحده . وأما الإيتاء فلله والرسول كما قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } .

فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فليس لأحد من المشايخ والملوك والعلماء والأمراء والمعلمين وسائر الخلق خروج عن ذلك بل على جميع الخلق أن يدينوا بدين الإسلام الذي بعث الله به رسله ; ويدخلوا به كلهم في دين خاتم الرسل وسيد ولد آدم وإمام المتقين خير الخلق وأكرمهم على الله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما وكل من أمر بأمر كائنا من كان عرض على [ ص: 25 ] الكتاب والسنة ; فإن وافق ذلك قبل وإلا رد ; كما جاء في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } أي : فهو مردود .

فإذا كان المشايخ والعلماء في أحوالهم وأقوالهم : المعروف والمنكر والهدي والضلال والرشاد والغي وعليهم أن يردوا ذلك إلى الله والرسول فيقبلوا ما قبله الله ورسوله ويردوا ما رده الله ورسوله : فكيف بالمعلمين وأمثالهم وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقد قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . فنسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم ; صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية