[ ص: 190 ] وقال
شيخ الإسلام رحمه الله فصل في الولاية والعداوة فإن المؤمنين أولياء الله وبعضهم أولياء بعض ; والكفار أعداء الله وأعداء المؤمنين . وقد أوجب
الموالاة بين المؤمنين وبين أن ذلك من لوازم الإيمان ونهى عن
موالاة الكفار وبين أن ذلك منتف في حق المؤمنين وبين
حال المنافقين في موالاة الكافرين .
فأما " موالاة المؤمنين " فكثيرة كقوله : {
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } إلى قوله : {
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقوله : {
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى قوله : {
والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } وقال تعالى : {
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } {
الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
وقال : {
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } إلى قوله : {
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } إلى آخر السورة وقوله : {
لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } وقال : {
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } وقال : {
ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } وقال : {
وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } وقال : {
فإن الله عدو للكافرين } وقال : {
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } {
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم } إلى قوله : {
والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال : {
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } {
فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } {
ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } {
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } إلى قوله :
[ ص: 192 ] {
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } إلى تمام الكلام . وقال : {
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } {
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } {
ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } {
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } .
فذم من يتولى الكفار من
أهل الكتاب قبلنا وبين أن ذلك ينافي الإيمان {
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } {
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } إلى قوله : {
سبيلا } وقال : {
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } {
إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } .
وقال عن المنافقين : {
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } كما قال عن الكفار المنافقين من
أهل الكتاب : {
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون } وقال : {
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم } نزلت فيمن تولى
اليهود من المنافقين وقال : {
ما هم منكم } ولا من
اليهود {
ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } {
أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون } {
اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } إلى قوله : {
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وقال : {
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم } إلى تمام القصة وقال : {
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } {
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم } .
وتبين أن موالاة الكفار كانت سبب ارتدادهم على أدبارهم ; ولهذا ذكر في " سورة المائدة " أئمة المرتدين عقب النهي عن موالاة الكفار قوله : {
ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال : {
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } .
فذكر المنافقين والكفار المهادنين وأخبر أنهم يسمعون لقوم آخرين لم يأتوك وهو استماع المنافقين والكفار المهادنين للكفار المعلنين الذين لم يهادنوا كما أن في المؤمنين من قد يكون سماعا للمنافقين كما قال : {
وفيكم سماعون لهم } .
وبعض الناس يظن أن المعنى : سماعون لأجلهم بمنزلة الجاسوس ; أي يسمعون ما يقول وينقلونه إليهم حتى قيل لبعضهم : أين في القرآن : الحيطان لها آذان ؟ قال : في قوله : {
وفيكم سماعون لهم } وكذلك قوله . {
سماعون للكذب } أي ليكذبوا : أن اللام لام التعدية لا لام التبعية ; وليس هذا معنى الآيتين ; وإنما المعنى فيكم من يسمع لهم أي يستجيب لهم ويتبعهم . كما في قوله : " سمع الله لمن حمده " استحباب الله لمن حمده أي قبل منه يقال : فلان يسمع لفلان أي يستجيب له ويطيعه .
وذلك أن المسمع وإن كان أصله نفس السمع الذي يشبه الإدراك ; لكن إذا كان المسموع طلبا : ففائدته وموجبه الاستجابة والقبول . وإذا كان المسموع خبرا . ففائدته التصديق والاعتقاد فصار يدخل
[ ص: 195 ] مقصوده وفائدته في مسماه نفيا وإثباتا فيقال : فلان يسمع لفلان : أي يطيعه في أمره أو يصدقه في خبره . وفلان لا يسمع ما يقال له : أي لا يصدق الخبر ولا يطيع الأمر كما بين الله السمع عن الكفار في غير موضع كقوله : {
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } وقوله : {
ولا يسمع الصم الدعاء } وذلك لأن سمع الحق يوجب قبوله إيجاب الإحساس الحركة وإيجاب علم القلب حركة القلب فإن الشعور بالملائم يوجب الحركة إليه والشعور بالمنافر يوجب النفرة عنه فحيث انتفى موجب ذلك دل على انتفاء مبدئه ; ولهذا قال تعالى : {
إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } .
ولهذا جعل سمع الكفار بمنزلة سمع البهائم لأصوات الرعاة أي يسمعون مجرد الأصوات سمع الحيوان لا يسمعون ما فيها - من تأليف الحروف المتضمنة للمعاني - السمع الذي لا بد أن يكون بالقلب مع الجسم ; فقال تعالى : {
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } يقول : هم يستجيبون {
لقوم آخرين } وأولئك {
لم يأتوك } وأولئك {
يحرفون الكلم من بعد مواضعه } يقولون لهؤلاء الذين أتوك : {
إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } كما ذكروا في سبب نزول
[ ص: 196 ] الآية : أنهم قالوا في حد الزنا وفي القتل : اذهبوا إلى هذا النبي الأمي فإن حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وإن حكم بغيره فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه .
فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه ; ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع ; بل يرون ويسمعون وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه ; لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم .
يبين ذلك أنه قال : {
لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } أي : لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال : وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم ; ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم : لم يكن مناسبا ; وإنما المقصود : أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم : حصل الشر . وأما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فإنهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم .
مما يبين ذلك أنه قال : {
سماعون للكذب أكالون للسحت } فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام : غذاء الجسوم وغذاء القلوب فإنهما غذاءان
[ ص: 197 ] خبيثان : الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه : يسمع الكذب كشهادة الزور ; ولهذا قال : {
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت } .
فلما كان هؤلاء : يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فإنهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه . فكان هو متخيرا في الحكم بينهم والإعراض عنهم . وإنما يجب عليه الحكم بين من لا بد له منه من المؤمنين .