وبها احتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب ; ولهذا قال من قال من [ ص: 224 ] العلماء : إن ما رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من هذا كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600322ليس الكاذب بالذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينوي خيرا } . ولم يرخص فيما يقول الناس : إنه كذب ; إلا في ثلاث : في الإصلاح بين الناس وفي الحرب ; وفي الرجل يحدث امرأته . قال : فهذا كله من المعاريض خاصة .
ولهذا نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكذب باعتبار القصد والغاية كما ثبت عنه أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600323الحرب خدعة } وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها . ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل يهديني السبيل . { وقول النبي صلى الله عليه وسلم للكافر السائل له في غزوة بدر : نحن من ماء } وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره : إنه أخي . وعني أخوة الدين وفهموا منه أخوة النسب فقال النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=90002إن كنت لأبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم } .
إذا تبين هذا فنقول : ذكر الناس بما يكرهون هو في الأصل على وجهين ( أحدهما ذكر النوع ( والثاني ذكر الشخص المعين الحي أو الميت .
أما الأول فكل صنف ذمه الله ورسوله يجب ذمه ; وليس ذلك من الغيبة كما أن كل صنف مدحه الله ورسوله يجب مدحه وما لعنه الله ورسوله لعن كما أن من صلى الله عليه وملائكته يصلى عليه . فالله تعالى ذم الكافر والفاجر والفاسق والظالم والغاوي والضال [ ص: 226 ] والحاسد والبخيل والساحر وآكل الربا وموكله والسارق والزاني والمختال والفخور والمتكبر الجبار وأمثال هؤلاء ; كما حمد المؤمن التقي والصادق والبار والعادل والمهتدي والراشد والكريم ; والمتصدق والرحيم وأمثال هؤلاء . { nindex.php?page=hadith&LINKID=11838ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه } والمحلل والمحلل له ولعن من عمل عمل قوم لوط . ولعن من أحدث حدثا أو آوى محدثا ولعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وساقيها وشاربها وآكل ثمنها ولعن اليهود والنصارى حيث حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ولعن الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات من بعد ما بينه للناس وذكر لعنة الظالمين .
والله هو وملائكته يصلون على النبي ويصلون على الذين آمنوا . والصابر المسترجع عليه صلاة من ربه ورحمة . والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير ويستغفر له كل شيء حتى الحيتان والطير وأمر الله نبيه أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات .
وقد قالوا nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر بن الخطاب في أهل الشورى : أمر فلانا وفلانا فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمرا جعله مانعا له من تعيينه .
وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة : مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد : سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ ؟ فقالوا : بين أمره . وقال بعضهم nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : أنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا . فقال : إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم .
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة ; فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل nindex.php?page=showalam&ids=12251لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع ؟ فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل . فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس [ ص: 232 ] الجهاد في سبيل الله ; إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب ; فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء .
فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس : فسد أمر الكتاب وبدل الدين ; كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله .
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين : قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا ; وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } فلا بد أيضا من بيان حال هؤلاء ; بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم ; بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق ; لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ; ولم تكن كذلك لوجب بيان حالها .
ولهذا وجب بيان حال من يغلط في الحديث والرواية ومن [ ص: 234 ] يغلط في الرأي والفتيا ومن يغلط في الزهد والعبادة ; وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه وهو مأجور على اجتهاده . فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب ; وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله . ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له ; فإن الله غفر له خطأه ; بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه : من ثناء ودعاء وغير ذلك ; وإن علم منه النفاق كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن أبي وذويه وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة : عبد الله بن سبأ وأمثاله : مثل عبد القدوس بن الحجاج ومحمد بن سعيد المصلوب ; فهذا يذكر بالنفاق . وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله . فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما .
ثم القائل في ذلك بعلم لا بد له من حسن النية فلو تكلم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ورياء . وإن تكلم لأجل الله تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل . وليس هذا الباب مخالفا لقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600336الغيبة ذكرك أخاك بما يكره } فإن الأخ هو المؤمن والأخ المؤمن إن كان صادقا في إيمانه لم يكره ما قلته من هذا الحق الذي يحبه الله ورسوله وإن كان فيه شهادة عليه وعلى ذويه بل عليه أن يقوم بالقسط ويكون شاهدا لله ولو على نفسه أو والديه أو أقربيه ومتى كره هذا الحق كان ناقصا في إيمانه ينقص من أخوته بقدر ما نقص من إيمانه فلم يعتبر كراهته من الجهة التي نقص منها إيمانه ; إذ كراهته لما [ ص: 236 ] لا يحبه الله ورسوله توجب تقديم محبة الله ورسوله كما قال تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } .
ثم قد يقال : هذا لم يدخل في حديث الغيبة لفظا ومعنى . وقد يقال : دخل في ذلك الذين خص منه كما يخص العموم اللفظي والعموم المعنوي وسواء زال الحكم لزوال سببه أو لوجود مانعه فالحكم واحد . والنزاع في ذلك يؤول إلى اللفظ ; إذ العلة قد يعني بها التامة وقد يعني بها المقتضية . والله أعلم وأحكم . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .