وأما
النفاق الأصغر : فهو النفاق في الأعمال ونحوها : مثل أن يكذب إذا حدث ويخلف إذا وعد ويخون إذا اؤتمن أو يفجر إذا خاصم . ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=40آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان } وفي رواية صحيحة {
nindex.php?page=hadith&LINKID=39545وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم } وفي الصحيحين
[ ص: 436 ] عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=600454أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب . وإذا وعد أخلف . وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر } .
ومن هذا الباب : الإعراض عن الجهاد . فإنه من
خصال المنافقين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=600455من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق } رواه
مسلم . وقد أنزل الله " سورة براءة " التي تسمى الفاضحة ; لأنها فضحت المنافقين . أخرجاه في الصحيحين عن
ابن عباس قال : هي الفاضحة ما زالت تنزل ( ومنهم ( ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها . وعن
المقداد بن الأسود قال : هي " سورة البحوث " لأنها بحثت عن سرائر المنافقين . وعن
قتادة قال : هي المثيرة ; لأنها أثارت مخازي المنافقين . وعن
ابن عباس قال : هي المبعثرة . والبعثرة والإثارة متقاربان .
وعن
ابن عمر : أنها المقشقشة . لأنها تبرئ من مرض النفاق . يقال : تقشقش المريض إذا برأ : قال
الأصمعي : وكان يقال لسورتي الإخلاص : المقشقشتان ; لأنهما يبرئان من النفاق .
[ ص: 437 ] وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة
تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الإسلام وظهر . فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد . ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال . وهذان داءان عظيمان : الجبن والبخل . قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=600456شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع } حديث صحيح ; ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله : {
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وقال تعالى . {
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } .
وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى : {
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } {
لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون } . فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم ; ولكن يفزعون من العدو . ف {
لو يجدون ملجأ } يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو ( مغارات وهي جمع مغارة . ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر ; كما يغور الماء . ( أو مدخلا
[ ص: 438 ] وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك . أي مكانا يدخلون إليه . ولو كان الدخول بكلفة ومشقة ( لولوا عن الجهاد {
إليه وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام . وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها .
وكذلك قال في " سورة
محمد " صلى الله عليه وسلم {
فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم } أي فبعدا لهم {
طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } وقال تعالى . {
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فحصر المؤمنين فيمن آمن وجاهد .
وقال تعالى : {
لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } {
إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } . فهذا إخبار من الله بأن
المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد ; وإنما يستأذنه الذي لا يؤمن فكيف بالتارك من غير استئذان ومن تدبر القرآن وجد نظائر هذا متضافرة على هذا المعنى .
[ ص: 439 ] وقال في وصفهم بالشح : {
وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } . فهذه حال من أنفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا وقال : {
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وقال : {
ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } .
وقال في السورة : {
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } {
يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه أو منعه من مستحقه من جميع الناس ; فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد . وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون . يقال : صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا .
وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل : من وقف أو عطية على
[ ص: 440 ] الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك . فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين .
ثم قال : {
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله .
والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك . وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها : مصالحهم - أولى وأحرى .