فلو قالوا : نصلي ولا نزكي أو نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة أو نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة [ ص: 469 ] أو قالوا : إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وما عليه جماعة المسلمين . فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة وجاهدوا الخوارج وأصنافهم وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام .
فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه . ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة .
وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم بحرورا لما خرجوا عن السنة والجماعة واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم ; فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب وأغاروا على ماشية المسلمين . فقام أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب وخطب الناس وذكر الحديث وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال فاستحل قتالهم وفرح بقتلهم فرحا عظيما ولم يفعل في خلافته أمرا عاما كان أعظم عنده من قتال الخوارج . وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين حتى كفروا عثمان وعليا . وكانوا يعملون بالقرآن في زعمهم ولا يتبعون سنة رسول صلى الله عليه وسلم التي يظنون أنها تخالف القرآن . كما يفعله سائر أهل البدع - مع كثرة عبادتهم وورعهم .
وقد ثبت عن علي في صحيح البخاري وغيره من نحو ثمانين وجها أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر ثم عمر . وثبت عنه [ ص: 474 ] أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية . وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه .
nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك . وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل ; لما ظن أنه من الخوارج : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك .
فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة : الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة . فأمر هو وعمر بجلدهم . والغالية يقتلون باتفاق المسلمين وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة في علي وغيره مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم : بيت صاد وبيت سين ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع أو ينكرون القيامة أو ينكرون ظواهر الشريعة : مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم وكتمان أسرارهم وزيارة شيوخهم . ويرون أن الخمر حلال لهم ونكاح ذوات المحارم حلال لهم .
فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى . فإن لم يظهر [ ص: 475 ] عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرا . فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم ; لأنهم مرتدون من شر المرتدين . فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين .
وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم .
وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا . والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد [ ص: 476 ] المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين . فإن القتال أوسع من القتل كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به .
وهذه النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج قد أدخل فيها العلماء لفظا أو معنى من كان في معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين ; بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية ; مثل الخرمية والقرامطة والنصيرية وكل من اعتقد في بشر أنه إله أو في غير الأنبياء أنه نبي وقاتل على ذلك المسلمين : فهو شر من الخوارج الحرورية .
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده ; بل أولهم خرج في حياته . فذكرهم لقربهم من زمانه كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها في ذلك الزمان مثل قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } . وقوله : { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ونحو ذلك . ومثل تعيين النبي صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميما وأسدا وغطفان وغيرهم بأحكام ; لمعان قامت بهم وكل من وجدت فيه تلك المعاني ألحق بهم ; لأن [ ص: 477 ] التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم ; بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم ; هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم .
وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم ; فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليا وأتباع عثمان وعلي فقط ; دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك .
والرافضة كفرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وكفروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين .
فيكفرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم كما رضي الله عنهم أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم ولهذا يكفرون أعلام الملة : مثل سعيد بن المسيب وأبي مسلم الخولاني nindex.php?page=showalam&ids=12338وأويس القرني وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي ومثل مالك والأوزاعي وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=15743وحماد بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة والثوري والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=14919وفضيل بن عياض nindex.php?page=showalam&ids=12032وأبي سليمان الداراني nindex.php?page=showalam&ids=17117ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وغير هؤلاء . ويستحلون دماء من خرج عنهم ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك [ ص: 478 ] وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو والعامة وأهل الحديث . ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم وأن المائعات التي عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى . لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء . مرتدون وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي .
ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور . وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيزخان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق ; وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم ; لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم .
وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى . وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين . وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر وكذلك لما فتح المسلمون الساحل - عكة وغيرها - ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم . وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك .
[ ص: 479 ] وقد اتفق أهل العلم بالأحوال ; أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها وأعظم الفساد الذي جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة : إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم .
وقد أشبهوا اليهود في أمور كثيرة لا سيما السامرة من اليهود ; فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف : يشبهونهم في دعوى الإمامة في [ ص: 480 ] شخص أو بطن بعينه والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه وفي اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه وتأخير الفطر وصلاة المغرب وغير ذلك وتحريم ذبائح غيرهم .
ويشبهون النصارى في الغلو في البشر والعبادات المبتدعة وفي الشرك وغير ذلك .
وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التي في الكتاب والسنة وكل من آمن بقدر الله وقضائه : فآمن بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وأنه خالق كل شيء .
وأكثر محققيهم عندهم - يرون أن أبا بكر وعمر وأكثر المهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمين وعامتهم ; ما آمنوا بالله طرفة عين قط ; لأن الإيمان الذي يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلا من أصله كما يقوله بعض علماء السنة . ومنهم من يرى أن فرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع به عائشة وحفصة لا بد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم ; لأن وطء الكوافر حرام عندهم .
ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخاري ومسلم ويرون أن [ ص: 482 ] شعر شعراء الرافضة : مثل الحميري وكوشيار الديلمي وعمارة اليمني خيرا من أحاديث البخاري ومسلم . وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل .
فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء وأحق بالقتال من الخوارج . وهذا هو السبب فيما شاع في العرف العام : أن أهل البدع هم الرافضة : فالعامة شاع عندها أن ضد السني هو الرافضي فقط لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء .
[ ص: 483 ] وأيضا فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذي لا وجود له . فمستند الخوارج خير من مستندهم .
وأيضا فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله . وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق : عبد الله بن سبأ ; فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهوديا في إفساد دين النصارى .
وأيضا فغالب أئمتهم زنادقة ; إنما يظهرون الرفض . لأنه طريق إلى هدم الإسلام كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان في زمن المعتصم مع بابك الخرمي وكانوا يسمون " الخرمية " و " المحمرة " " والقرامطة الباطنية " الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك وأخذوا الحجر الأسود وبقي معهم مدة . كأبي سعيد الجنابي وأتباعه . والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر وبنوا القاهرة وادعوا أنهم فاطميون مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريئون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نسبهم متصل بالمجوس واليهود واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى . بل الغالية الذين يعتقدون [ ص: 484 ] إلهية علي والأئمة . ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة : الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك .
وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان : بالمؤازرة والولاية وغير ذلك ; لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى ; ولهذا كان ملك الكفار " هولاكو " يقرر أصنامهم .
وأيضا فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد .
وأما ذكر المستفتي أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذا عين الكذب ; بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله : فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه . وتارة يكذبون بمعاني التنزيل . وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم .
فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته . وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه . وذكر في كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون . وذكر في كتابه من النهي عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون [ ص: 485 ] عنه . وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز : ما هم أعظم الناس استحلالا له . وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه . وذكر في كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه . وذكر في كتابه من حقوق أزواجه ما هم براء منه . وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه . فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التي اتخذت أوثانا من دون الله . وهذا باب يطول وصفه .
وقد ذكر في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به . وذكر في كتابه من قصص الأنبياء والنهي عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به . وذكر في كتابه من أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله : ما هم كافرون به . ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة .
ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم . فإذا كان أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قتلهم ونهب عسكره ما في عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم كما أخذ أمير المؤمنين [ ص: 486 ] nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب أموال الخوارج .
فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التي يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك ; وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية وليس لهم تأويل سائغ ; فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد . وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعي الزكاة والخوارج واليهود والنصارى . وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء .
ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل في مختصراتهم . وكثير من الأئمة المصنفين في الشريعة لم يذكروا في مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية كمانعي الزكاة والخوارج ونحوهم إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام كأهل [ ص: 487 ] الجمل وصفين . وهذا غلط ; بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه والسنة والحديث والتصوف والكلام وغيرهم .
وأيضا فقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم ; مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم الله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600463من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات : مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية ; يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية : فليس مني ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني } فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان وعن جماعة المسلمين وذكر أن أحدهم إذا مات مات ميتة جاهلية ; فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة ; بل كل طائفة تغالب الأخرى . ثم ذكر قتال أهل العصبية كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم وذكر أن من فعل هذا فليس منه .
وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها . فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة : يقتلون المؤمن والمعاهد لا يرون لأحد من ولاة [ ص: 488 ] المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا ; إلا لمن لا وجود له . وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوي الأنساب : وهي العصبية للدين الفاسد ; فإن في قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس في قلب أحد . وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله : مستقدمهم ومستأخرهم . وأمثلهم عندهم الذي لا يلعن ولا يستغفر .
وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين ; فإنهم لا يقرون لولي أمر بطاعة سواء كان عدلا أو فاسقا ; ولا يطيعونه لا في طاعة ولا في غيرها ; بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور ; كالخلفاء الراشدين والعلماء المسلمين ومشايخهم ; لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذي لا وجود له فما آمن [ ص: 489 ] بالله ورسوله .
وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج ; وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجا عن السنة والجماعة ; مع وجود بقية الخلفاء الراشدين وبقايا المهاجرين والأنصار وظهور العلم والإيمان والعدل في الأمة وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة وسلطان القدرة ; حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة .
وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلي ومن معهما من الأنواع التي فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك وجعلوا موارد الاجتهاد . بل الحسنات ذنوبا وجعلوا الذنوب كفرا ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم .
ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها . كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفضل . فالسنن ضد البدع فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما [ ص: 490 ] تأخر كسيرة عثمان وعلي والبدع بالضد كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه وأقربها من زمنه الخوارج . فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه ; ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه .
ثم ظهر في زمن علي التكلم بالرفض ; لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة فسموا " رافضة " واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم . واتبعه آخرون فسموا " زيدية " نسبة إليه .
ثم في أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة فردها بقايا الصحابة ; كابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد nindex.php?page=showalam&ids=105وواثلة بن الأسقع وغيرهم ; ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك .
ثم في أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية نفاة الصفات ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية في إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون ; فإنه أظهر التجهم وامتحن الناس عليه وعرب كتب [ ص: 491 ] الأعاجم : من الروم واليونانيين وغيرهم . وفي زمنه ظهرت " الخرمية " . وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة والباطنية والإسماعيلية . وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض في الظاهر . وصارت الرافضة الإمامية في زمن بني بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة : فيهم الخروج والرفض والقدر والتجهم .
وإذا تأمل العالم ما ناقضوه من نصوص الكتاب والسنة لم يجد أحدا يحصيه إلا الله . فهذا كله يبين أن فيهم ما في الخوارج الحرورية وزيادات .
ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة وتبرءوا من الناصبة الذين يكفرون nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب ويفسقونه [ ص: 493 ] وينتقصون بحرمة أهل البيت ; مثل من كان يعاديهم على الملك أو يعرض عن حقوقهم الواجبة أو يغلو في تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق . وتبرءوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين ; ويكفرون عامة صالحي أهل القبلة . وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين ; لكن القرآن أعظم .
فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض ; مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ومخالفة لصحابته وقرابته ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته .
وفي مسلم أيضا " عن عبد الله بن رافع كاتب علي رضي الله عنه أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا : لا حكم إلا لله . فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من أبغض خلق الله إليه منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي . فلما قتلهم nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن طالب قال : انظروا . فنطروا فلم يجدوا شيئا . فقال : ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت - مرتين أو ثلاثا - ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه " .
وهذه العلامة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي علامة أول من يخرج منهم ليسوا مخصوصين بأولئك القوم . فإنه قد أخبر [ ص: 496 ] في غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال . وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر .
فهؤلاء أصل ضلالهم : اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل وأنهم ضالون وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا . ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها .
فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه وفي غيرهم . وإنما قولنا : إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار أي قاتل جنس الكفار وإن كان الكفر أنواعا مختلفة . وكذلك الشرك أنواع مختلفة وإن لم يكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك ; لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه .
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان في معنى أولئك ويجب قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب قتال أولئك . وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير .
فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج ; كالحرورية والرافضة ونحوهم : فهذا فيه قولان للفقهاء هما روايتان عن الإمام أحمد . والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم ; كالداعية إلى مذهبه ونحو ذلك ممن فيه [ ص: 500 ] فساد . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=69766أينما لقيتموهم فاقتلوهم } وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=69767لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد } وقال عمر لصبيغ بن عسل : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك . ولأن nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب طلب أن يقتل عبد الله بن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه . ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين في الأرض . فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلوا ولا يجب قتل كل واحد منهم إذا لم يظهر هذا القول أو كان في قتله مفسدة راجحة . ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجي ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام ; ولهذا ترك علي قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقا كثيرا وكانوا داخلين في الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة ولم يكن يتبين له أنهم هم .
وأما تكفيرهم وتخليدهم : ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران : وهما روايتان عن أحمد . والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم . والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا . وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع ; لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه . فإنا نطلق [ ص: 501 ] القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له . وقد بسطت هذه القاعدة في " قاعدة التكفير " .
ولهذا لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الذي قال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لأن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين مع شكه في قدرة الله وإعادته ; ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة ; فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة . وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك فيطلق أن هذا القول كفر ويكفر متى قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ; دون غيره . والله أعلم ؟ .