[ ص: 509 ] ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على بيان الحق المبين وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وتكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر فهل يجب قتالهم أم لا ؟ وما الحجة على قتالهم ؟ وما مذاهب العلماء في ذلك ؟ وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين : الأمراء وغيرهم ؟ وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرها ؟ وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف ونحو ذلك ؟ وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما . وفي قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون ؟ وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين وأهل القتال وأهل الأموال في أمرهم ؟ أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين ; بل على أكثرهم . تارة لعدم العلم بأحوالهم . وتارة لعدم العلم بحكم الله [ ص: 510 ] تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثلهم . والله الميسر لكل خير بقدرته ورحمته ; أنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل .
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله ; واتفاق أئمة المسلمين . وهذا مبني على أصلين : أحدهما المعرفة بحالهم . والثاني معرفة حكم الله في مثلهم .
فأما الأول فكل من باشر القوم يعلم حالهم ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين . ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول : كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين ; وإن تكلمت بالشهادتين . فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا . وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة . وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق . وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة . وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة . وكذلك [ ص: 511 ] إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها ; مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور .
وهؤلاء قاتلهم nindex.php?page=showalam&ids=8أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمن معه من الصحابة واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها ; لم يتنازعوا في قتالهم كما تنازعوا في القتال يوم الجمل وصفين . فإن الصحابة كانوا في قتال الفتنة ثلاثة أصناف : قوم قاتلوا مع علي رضي الله عنه . وقوم قاتلوا مع من قاتله . وقوم قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين . وأما الخوارج [ ص: 513 ] فلم يكن فيهم أحد من الصحابة ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة وفي الصحيح عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600478تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق } . وفي لفظ { nindex.php?page=hadith&LINKID=69838أدنى الطائفتين إلى الحق } فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه . وإن تلك المارقة التي مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين ; بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال هذه المارقة وأكد الأمر بقتالها ولم يأمر بقتال إحدى الطائفتين كما أمر بقتال هذه ; بل قد ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي بكرة أنه قال للحسن : { nindex.php?page=hadith&LINKID=10959إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين } فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال وقد بويع له واختار الأصلح وحقن الدماء مع نزوله عن الأمر . فلو كان القتال مأمورا به لم يمدح الحسن ويثني عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه .
والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان : منهم من يرى قتالا على يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغي وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة كما ذكر ذلك من ذكره [ ص: 514 ] من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقا بل هم عدول : فقالوا إن أهل البغي عدول مع قتالهم وهم مخطئون خطأ المجتهدين في الفروع .
وخالفت في ذلك طائفة Multitarajem.php?tid=13371,13372كابن عقيل وغيره فذهبوا إلى تفسيق أهل البغي وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغي في زمنهم فرأوهم فساقا ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة في ذلك - وإنما يفسق الصحابة بعض أهل الأهواء من المعتزلة ونحوهم كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة - ولا يقولون إن أموالهم معصومة كما كانت وما كان ثابتا بعينه رد إلى صاحبه وما أتلف في حال القتال لم يضمن حتى أن جمهور العلماء يقولون : لا يضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء كما قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر .
واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم [ ص: 515 ] إذا كان لهم فئة يلجئون إليها . فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعي وهو المشهور في مذهب أحمد وفي مذهبه وجه : أنه يتبع مدبرهم في أول القتال . وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال : خرج صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن .
فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج . وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى .
والطريقة الثانية : إن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره .
وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع حتى في الأموال . فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج وقد نص أحمد في رواية أبي طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا [ ص: 516 ] يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين فيقسم خمسه على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين . فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار . وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به .
فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا . فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة . وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر . وقال في أهل الجمل وغيرهم : إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين .
فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم . على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم .
ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما أنهم بغاة . والثاني أنهم كفار كالمرتدين يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل : كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم . [ ص: 519 ] وممن قاتلهم الصحابة - مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك - مانعي الزكاة كما في الصحيحين " عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . فقال له أبو بكر : ألم يقل لك : إلا بحقها . فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق " .
وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان . وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله . وقد حكي عنهم أنهم قالوا : إن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله : { خذ من أموالهم صدقة } وقد سقطت بموته .
وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الذين لا ينتهون عن شرب الخمر .
وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم . فقد علم أن هؤلاء [ ص: 520 ] القوم جازوا على الشام في المرة الأولى : عام تسعة وتسعين وأعطوا الناس الأمان وقرءوه على المنبر بدمشق ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال إنه مائة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله حتى يقال إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها كالمسجد الأقصى والأموي وغيره وجعلوا الجامع الذي بالعقيبة دكا .
وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في عسكرهم مؤذنا ولا إماما وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله .
ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان من شر الخلق . إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسلام في الباطن وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم وأما من هو من أفجر الناس وأفسقهم . وهم في بلادهم مع تمكنهم لا يحجون البيت العتيق وإن كان فيهم من يصلي ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة .
وهم يقاتلون على ملك جنكسخان . فمن دخل في طاعتهم جعلوه [ ص: 521 ] وليا لهم وإن كان كافرا ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين . ولا يقاتلون على الإسلام ولا يضعون الجزية والصغار .
بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون . فقال هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكسخان . فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرا وفسادا وعدوانا من جنس بخت نصر وأمثاله .
وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيما فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح ويقولون إن الشمس حبلت أمه وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت . ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب . وهذا دليل على أنه ولد زنا وأن أمه زنت فكتمت زناها وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنه لهم وشرعه بظنه وهواه حتى [ ص: 522 ] يقولوا لما عندهم من المال . هذا رزق جنكسخان ويشكرونه على أكلهم وشربهم وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين .
فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم بمنزلة هذا الملعون . ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضررا على المسلمين من هذا وادعى أنه شريك محمد في الرسالة وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين . فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدا كجنكسخان وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم .
أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والانقياد ويحملون إليه الأموال ويقرون له بالنيابة ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام . وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال والدخول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمروذ ونحوهما ; بل هو أعظم فسادا في الأرض منهما . قال الله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } .
وهذا الكافر علا في الأرض : يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبي الحريم وبأخذ الأموال وبهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية .
فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية لا بحكم الله ورسوله .
وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وإن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين .
ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى ومنهم من يرجح دين المسلمين وهذا القول فاش غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبادهم لا سيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم فإنه غلبت عليهم الفلسفة . وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم وعلى [ ص: 524 ] هذا كثير من النصارى أو أكثرهم وكثير من اليهود أيضا ; بل لو قال القائل : إن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد . وقد رأيت من ذلك وسمعت ما لا يتسع له هذا الموضع .
وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب فإنه كان يهوديا متفلسفا ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف وضم إلى ذلك الرفض . فهذا هو أعظم من عندهم من ذوي الأفلام وذاك أعظم من كان عندهم من ذوي السيف . فليعتبر المؤمن بهذا .
وبالجملة فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهي داخلة في اتباع التتار ; [ ص: 525 ] لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين وأبعدهم عن اتباعه وأعظم الخلق اتباعا للظن وما تهوى الأنفس .
وقد قسموا الناس أربعة أقسام : يال وباع وداشمند وطاط - أي صديقهم وعدوهم والعالم والعامي - فمن دخل في طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم . ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه . وكل من انتسب إلى علم أو دين سموه " داشمند " كالفقيه والزاهد والقسيس والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب فيدرجون سادن الأصنام . فيدرجون في هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع ما لا يعلمه إلا الله ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعا واحدا .
بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسي وأمثاله هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى . وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله بحيث تكون موافقته للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره .
[ ص: 526 ] ويتظاهر من شريعة الإسلام بما لا بد له منه لأجل من هناك من المسلمين . حتى أن وزيرهم هذا الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفا ; مضمونه أن النبي صلى الله عليه وسلم رضي بدين اليهود والنصارى وأنه لا ينكر عليهم ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام . واستدل الخبيث الجاهل بقوله : { قل يا أيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { ولا أنا عابد ما عبدتم } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } { لكم دينكم ولي دين } وزعم أن هذه الآية تقتضي أنه يرضى دينهم قال : وهذه الآية محكمة ; ليست منسوخة . وجرت بسبب ذلك أمور .
وقد أظهروا الرفض ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين وذكروا عليا وأظهروا الدعوة للاثني عشر ; الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون وإن أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون ; لا خلافة لهم ولا لمن بعدهم . ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين ; فإن الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلي وشيعتهما . والرافضة تكفير أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين وتجحد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما جحد به الخوارج وفيهم من الكذب والافتراء والغلو والإلحاد ما ليس في الخوارج وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس في الخوارج .
والرافضة تحب التتار ودولتهم ; لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين . والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين [ ص: 528 ] وسبي حريمهم . وقضية nindex.php?page=showalam&ids=12824ابن العلقمي وأمثاله مع الخليفة وقضيتهم في حلب مع صاحب حلب : مشهورة يعرفها عموم الناس . وكذلك في الحروب التي بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام : قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدا ومسرة عند الرافضة .
ودخل في الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من " النصيرية " و " الإسماعيلية " وأمثالهم من الملاحدة " القرامطة " وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك . والرافضة جهمية قدرية وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما في الخوارج المارقين الذين قاتلهم nindex.php?page=showalam&ids=8أمير المؤمنين علي وسائر الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما في مانعي الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة .
فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وذكر : أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار فكانوا أعظم مروقا عن الدين من أولئك المارقين بكثير كثير .
وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين كما قاتلهم علي رضي الله عنه فكيف إذا ضموا إلى ذلك من أحكام المشركين - كنائسا - وجنكسخان ملك المشركين : ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام . وإذا كان السلف [ ص: 531 ] قد سموا مانعي الزكاة مرتدين - مع كونهم يصومون . ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين - فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه .
أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=21286لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة } وفي رواية لمسلم : { لا يزال أهل الغرب } والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية فغربه ما يغرب عنها وشرقه ما يشرق عنها ; فإن التشريق والتغريب من الأمور النسبية ; إذ كل بلد له شرق وغرب ; ولهذا إذا قدم الرجل إلى الإسكندرية من الغرب يقولون : سافر إلى الشرق وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام : أهل الغرب ويسمون أهل نجد والعراق : أهل الشرق كما في حديث ابن عمر قال : قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا وفي [ ص: 532 ] رواية من أهل نجد - ولهذا قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : " أهل الغرب " هم أهل الشام - يعني هم أهل الغرب - كما أن نجدا والعراق أول الشرق وكل ما يشرق عنها فهو من الشرق وكل ما يغرب عن الشام من مصر وغيرها فهو داخل في الغرب . وفي الصحيحين : أن nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل قال : في الطائفة المنصورة : وهم بالشام . فإنها أصل المغرب وهم فتحوا سائر المغرب كمصر والقيروان والأندلس وغير ذلك .
وإذا كان غرب المدينة النبوية ما يغرب عنها فالبيرة ونحوها على مسامتة المدينة النبوية كما أن حران والرقة وسميساط ونحوها على مسامتة مكة فما يغرب عن البيرة فهو من الغرب الذين وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما تقدم . وقد جاء في حديث آخر في صفة الطائفة المنصورة { nindex.php?page=hadith&LINKID=600481أنهم بأكناف البيت المقدس } وهذه الطائفة هي التي بأكناف البيت المقدس اليوم .
ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام : علما وعملا وجهادا عن شرق الأرض وغربها ; فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة : معلومة قديما وحديثا . والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم ولهذا لما هزموا [ ص: 533 ] سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله . والحكايات في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها .
وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له ; وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى . وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون ; وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد فلو ذلت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى - لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس ; لا سيما وقد غلب فيهم الرفض وملك هؤلاء التتار المحاربين لله ورسوله الآن مرفوض فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية . وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها وهم من شر الخلق ; بل هم مستحقون للجهاد والغزو . وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم لا يقومون بجهاد النصارى هناك ; بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم . لو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس لا سيما والنصارى [ ص: 534 ] تدخل مع التتار فيصيرون حزبا على أهل المغرب .
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام وعزهم عز الإسلام وذلهم ذل الإسلام . فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل منه .
فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار ; فإن التتار فيهم المكره وغير المكره وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة . منها أن المرتد يقتل بكل حال ولا يضرب عليه جزية ولا تعقد له ذمة ; بخلاف الكافر الأصلي . ومنها أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال ; بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد ; ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد . ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته بخلاف الكافر الأصلي . إلى غير ذلك من الأحكام .
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه ; ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم [ ص: 535 ] من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا ; فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق . وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها أو متصوفا أو تاجرا أو كاتبا أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام . ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعضه وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين .
وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدا : نصيريا أو إسماعيليا أو رافضيا . وخيارهم يكون جهميا اتحاديا أو نحوه فإنه لا ينضم إليهم طوعا من المظهرين للإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر . ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته . ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره .
فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته - المكره فيهم وغير المكره - مع قدرته على التمييز بينهم مع أنه يبعثهم على نياتهم فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه كما روي : { أن العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسره المسلمون يوم بدر : يا رسول الله إني كنت مكرها . فقال : أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله } . بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا ; فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار . ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء . ومن قتل لأجل الجهاد الذي [ ص: 538 ] أمر الله به ورسوله - هو في الباطن مظلوم - كان شهيدا وبعث على نيته ولم يكن قتله أعظم فسادا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين .
[ ص: 539 ] ففي هذا الحديث أنه نهى عن القتال في الفتنة ; بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال أو إفساد السلاح الذي يقاتل به وقد دخل في ذلك المكره وغيره . ثم بين أن المكره إذا قتل ظلما كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول كما قال تعالى في قصة ابني آدم عن المظلوم : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع ; وإنما تنازعوا هل يجب عليه الدفع بالقتال ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد : ( إحداهما يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف . و ( الثانية يجوز لا الدفع عن نفسه . وأما الابتداء بالقتال في الفتنة فلا يجوز بلا ريب .
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل ; بل عليه إفساد سلاحه وأن يصبر حتى يقتل مظلوما فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين ; وإن أكرهه بالقتل ; فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس . [ ص: 540 ] فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو ; بل إذا فعل ذلك كان القود على المكره والمكره جميعا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يجب القود على المكره فقط كقول أبي حنيفة ومحمد . وقيل : القود على المكره المباشر كما روي ذلك عن زفر . وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه . وقد روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود وفيها : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600484أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين } ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه ; إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين . وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر .
فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره : كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى . وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل وإن كان المال الذي يأخذه قيراطا من دينار . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600485من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون حرمه فهو شهيد } فكيف [ ص: 541 ] بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم . فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين : في أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم . وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها . ومن قتل دونها فهو شهيد فكيف بمن قاتل عليها كلها وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين .
لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحا وضل ضلالا بعيدا ; فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به ; ولهذا قالوا : إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها . فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا الخارجين عن شرائع الدين . ولا ريب أنهم لا يقولون إنهم أقوم بدين الإسلام علما وعملا من هذه الطائفة ; بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم وأتبع له منهم . وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال فامتنع أن يكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم حتى أن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال ويعظمون الرجل [ ص: 542 ] ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم والمتأول تأويلا دينيا لا يعاقب إلا من يراه عاصيا للدين وهم يعظمون من يعاقبونه في الدين ويقولون إنه أطوع لله منهم . فأي تأويل بقي لهم ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغا ; بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة أوجه من تأويلهم .
أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن وإن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به . وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا : إن الله قال لنبيه : { خذ من أموالهم صدقة } وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره . فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له . والخوارج لهم علم وعبادة وللعلماء معهم مناظرات كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية . وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل .
وفي الصحيحين عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600486إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موالاته ليست بالقرابة والنسب ; بل بالإيمان والتقوى . فإذا كان هذا في قرابة الرسول فكيف بقرابة جنكسخان الكافر المشرك وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى وإن كان الأول أسود حبشيا والثاني علويا أو عباسيا .