[ ص: 545 ] وقد اتفق علماء المسلمين على أن الطائفة الممتنعة إذا امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة أو صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة أو عن تحريم الفواحش أو الخمر أو نكاح ذوات المحارم أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق أو الربا أو الميسر أو عن الجهاد للكفار أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب ونحو ذلك من شرائع الإسلام فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله .
وقد ثبت في الصحيحين أن عمر لما ناظر أبا بكر في مانعي الزكاة قال له أبو بكر : كيف لا أقاتل من ترك الحقوق التي أوجبها الله ورسوله وإن كان قد أسلم كالزكاة وقال له : فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق .
وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء . وأول من قاتلهم nindex.php?page=showalam&ids=8أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما زال المسلمون يقاتلون في صدر خلافة بني أمية وبني العباس مع الأمراء وإن كانوا ظلمة وكان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم . فكل أئمة المسلمين يأمرون بقتالهم .
والتتار وأشباههم أعظم خروجا عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج من أهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا . فمن شك في قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين . كما قال العباس لما أسر يوم بدر : يا رسول الله إني خرجت مكرها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم { أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله } .
ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز . فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين وكانوا هم على نياتهم فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فإنه يحشر على نيته يوم القيامة فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من يقتل من عسكر المسلمين . وأما إذا هرب أحدهم فإن من الناس من يجعل قتالهم بمنزلة قتال البغاة المتأولين .
[ ص: 548 ] وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة . فهل يجوز اتباع مدبرهم وقتل أسيرهم والإجهاز على جريحهم ؟ على قولين للعلماء مشهورين . فقيل : لا يفعل ذلك ; لأن منادي nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسير . وقيل : بل يفعل ذلك ; لأنه يوم الجمل لم يكن لهم طائفة ممتنعة . وكان المقصود من القتال دفعهم فلما اندفعوا لم يكن إلى ذلك حاجة ; بمنزلة دفع الصائل . وقد روي : أنه يوم الجمل وصفين كان أمرهم بخلاف ذلك . فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأولين جعل فيهم هذين القولين . والصواب أن هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين ; فإن هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ أصلا وإنما هم من جنس الخوارج المارقين ومانعي الزكاة وأهل الطائف والخرمية ونحوهم ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام .
وهذا موضع اشتبه على كثير من الناس من الفقهاء ; فإن المصنفين في " قتال أهل البغي " جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج وقتال علي لأهل البصرة وقتاله لمعاوية وأتباعه : من قتال أهل البغي وذلك كله مأمور به وفرعوا مسائل ذلك تفريع من يرى ذلك بين الناس وقد غلطوا ; بل الصواب ما عليه أئمة الحديث والسنة وأهل المدينة النبوية ; كالأوزاعي والثوري ومالك nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل [ ص: 549 ] وغيرهم : أنه يفرق بين هذا وهذا . فقتال علي للخوارج ثابت بالنصوص الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين وأما القتال " يوم صفين " ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة ; بل صد عنه أكابر الصحابة ; مثل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة nindex.php?page=showalam&ids=111وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم . ولم يكن بعد nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب في العسكرين مثل سعد بن أبي وقاص .
والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه كان يجب الإصلاح بين تينك الطائفتين ; لا الاقتتال بينهما كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه خطب الناس والجيش معه فقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=10959إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين } فأصلح الله بالحسن بين أهل العراق وأهل الشام : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإصلاح به من فضائل الحسن مع أن الحسن نزل عن الأمر وسلم الأمر إلى معاوية . فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك ما أمر به وفعل ما لم يؤمر به ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى . فعلم أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله ; لا القتال . وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعهوأسامة على فخذيه ويقول : { nindex.php?page=hadith&LINKID=600488اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب [ ص: 550 ] من يحبهما } وقد ظهر أثر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بكراهتهما القتال في الفتنة ; فإن أسامة امتنع عن القتال مع واحدة من الطائفتين وكذلك الحسن كان دائما يشير على علي بأنه لا يقاتل ولما صار الأمر إليه فعل ما كان يشير به على أبيه . رضي الله عنهم أجمعين .
[ ص: 551 ] فالفتن مثل الحروب التي تكون بين ملوك المسلمين وطوائف المسلمين مع أن كل واحدة من الطائفتين ملتزمة لشرائع الإسلام . مثل ما كان أهل الجمل وصفين ; وإنما اقتتلوا لشبه وأمور عرضت . وأما قتال الخوارج ومانعي الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ; فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم في بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله . فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام ; بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا في طاعتهم فمن دخل في طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين . وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين . فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء . فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار وأن يكفوا عن قتال من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على [ ص: 552 ] قتال الكفار .
وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم ; فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه في الضلال الذي يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . ولو وصفت ما أعلمه من أمورهم لطال الخطاب .
وبالجملة فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفي الذي بعث رسوله به لاهتدوا وأطاعوا : مثل الطائفة المنصورة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=21286لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة } وثبت عنه في الصحيح أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=31617لا يزال أهل الغرب ظاهرين } وأول الغرب ما يسامت البيرة ونحوها ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية فما يغرب عنها فهو غرب كالشام ومصر . وما شرق عنها فهو شرق كالجزيرة والعراق . وكان السلف يسمون أهل الشام " أهل المغرب " . ويسمون أهل العراق " أهل المشرق " . وهذه الجملة التي ذكرتها فيها [ ص: 553 ] من الآثار والأدلة الشرعية ما هو مذكور في غير هذا الموضع . والله أعلم .