فأجاب رضي الله عنه وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين . الحمد لله رب العالمين : بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن . وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح ؟ هذا فيه قولان مشهوران [ ص: 283 ] لأهل الحديث والسنة والكلام وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث ; قول من يقول : إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح ; وأن البدن لا ينعم ولا يعذب . وهذا تقوله " الفلاسفة " المنكرون لمعاد الأبدان ; وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين .
ويقوله كثير من " أهل الكلام " من المعتزلة وغيرهم : الذين يقولون : لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور . وقول من يقول : إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وأصحاب أبي الحسن الأشعري كالقاضي أبي بكر وغيرهم ; وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن . وهذا قول باطل ; خالفه الأستاذ أبو المعالي الجويني وغيره ; بل قد ثبت في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة . " والفلاسفة " الإلهيون يقولون بهذا لكن ينكرون معاد الأبدان وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان ; لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان ; وكلا القولين خطأ وضلال لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام . [ ص: 284 ]
والقول الثالث : الشاذ . قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن وأن البدن لا ينعم ولا يعذب . فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة ; لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة فليعلم أن مذهب " سلف الأمة وأئمتها " أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأنها تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم والعذاب . ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها وقاموا من قبورهم لرب العالمين . ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين واليهود والنصارى وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة .
. وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائما على البدن في كل وقت ; بل يجوز أن يكون في حال دون حال .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ; ما أنتم بأسمع لما أقول منهم } . قال قتادة : أحياهم الله حتى سمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وتنديما . وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك . والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله : { إنك لا تسمع الموتى } إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه فإن هذا مثل ضرب للكفار والكفار تسمع الصوت لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع كما قال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } . فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع السماع المعتاد أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار ; بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم . [ ص: 299 ] وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين فهذا موافق لهذا فكيف يدفع ذلك ؟ ومن العلماء من قال : إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتا كما قالت عائشة . واستدلت به من القرآن وأما إذا أحياه الله فإنه يسمع كما قال قتادة : أحياهم الله له . وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها كما نحن لا نرى الملائكة والجن ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه الله عليه . [ وهذه ] جملة يحصل بها مقصود السائل وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعا . والله أعلم . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .