صفحة جزء
[ ص: 33 ] فصل جماع هذا أنك أنت إذا كنت غير عالم بمصلحتك ; ولا قادر عليها ; ولا مريد لها كما ينبغي ; فغيرك من الناس أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ; ولا قادرا عليها ; ولا مريدا لها ; والله - سبحانه - هو الذي يعلم ولا تعلم ; ويقدر ولا تقدر ; ويعطيك من فضله العظيم ; كما في حديث الاستخارة : { اللهم إني أستخيرك بعلمك ; وأستقدرك بقدرتك ; وأسألك من فضلك العظيم ; فإنك تقدر ولا أقدر ; وتعلم ولا أعلم ; وأنت علام الغيوب } .

[ ص: 34 ] فصل وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه ، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة ، بل كل حي فهو كذلك له علم وعمل بإرادته . والإرادة هي المشيئة والاختيار ، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب ، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصله ، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة ; وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره ; وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب كالآلات ونحو ذلك ، فلا بد لكل حي من إرادة ، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده . فصار العبد مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده ; ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده هذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان يجده في نفسه .

لكن المراد والمستعان على قسمين : منه ما يراد لغيره ، ومنه ما يراد لنفسه . والمستعان : منه ما هو المستعان لنفسه ، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له ، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب ، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه ، وهو الإله المقصود ، ومنه ما يراد لغيره ، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير ، فهذا مراد بالعرض .

ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد ; ويتوكل عليه ; ويعتضد به ; ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة ومنه ما يكون تبعا لغيره ، بمنزلة الأعضاء مع القلب ; والمال مع المالك ; والآلات مع الصانع . [ ص: 35 ]

فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس ; وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين : لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها ; وهو إلهها . ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها ; سواء كان ذلك هو الله أو غيره وإذا فقد يكون عاما وهو الكفر ، كمن عبد غير الله مطلقا ، وسأل غير الله مطلقا ، مثل عباد الشمس والقمر وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات ، ويفزعون إليهم في النوائب .

وقد يكون خاصا في المسلمين ، مثل من غلب عليه حب المال ، أو حب شخص ، أو حب الرياسة ، حتى صار عبد ذلك ، كما قال صلى الله عليه وسلم { تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة : إن أعطي رضي ، وإن منع سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش } وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله ، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم ، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم ، أو أصدقائه أو أمواله هي التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية ، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسئول . وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة ، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره ; خضع له وذل ; وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته ، وينسى مقصوده منه ; كما يصيب كثيرا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان .

وأما من أحبه القلب وأراده وقصده ; فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه ; كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله [ ص: 36 ] فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه ; وإلا فلا ; فالأقسام ثلاثة فقد يكون محبوبا غير مستعان ، وقد يكون مستعانا غير محبوب ; وقد يجتمع فيه الأمران .

فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه ، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه ; - وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته - تبين أن قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } كلام جامع محيط أولا وآخرا ، لا يخرج عنه شيء ، فصارت الأقسام أربعة . إما أن يعبد غير الله ويستعينه - وإن كان مسلما - فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل .

وإما أن يعبده ويستعين غيره ، مثل كثير من أهل الدين ، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له ; وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم ; ورزقهم ، وهدايتهم ، من جهته : من الملوك والأغنياء والمشايخ . وإما أن يستعينه - وإن عبد غيره - مثل كثير من ذوي الأحوال ; وذوي القدرة وذوي السلطان الباطن أو الظاهر ، وأهل الكشف والتأثير ; الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجئون إليه ; لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله ; وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله .

والقسم الرابع : الذين لا يعبدون إلا إياه ; ولا يستعينون إلا به ; وهذا القسم الرباعي قد ذكر فيما بعد أيضا ; لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة وتارة يكون بحسب المستعان ; فهنا هو بحسب المعبود والمستعان ; لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان ، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته ; فإن الناس فيها على أربعة أقسام . [ ص: 37 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية