فأجاب : الحمد لله . أما " المصراة والمحفلة " فهي البهيمة - من الإبل والغنم وغيرهما - تترك حتى يجتمع اللبن في ضرعها أياما ثم تباع يظن المشتري أنها تحلب كل يوم مثل ذلك . فهذا من التدليس والغش وقد حرمه النبي صلى الله عليه وسلم عموما وخصوصا وجعل للمشتري الخيار ثلاثا إذا حلبها ; إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها ورد عوض اللبن الذي كان موجودا وقت العقد وجعل صلى الله عليه وسلم عوضه صاعا من تمر .
وأما بيع الغرر الذي لا يمكن البائع تسليمه مثل أن يبيع عبده الآبق وبعيره أو فرسه الشارد أو طيره الذي خرج من قفصه أو من حبله ونحو ذلك . فإن بيع مثل هذه الأمور من " باب المخاطرة والقمار " فإن المبيع إن قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع حيث أخذ ماله بدون قيمته وإن لم يقدر عليه كان البائع قد قمر المشتري [ ص: 427 ] وفي كل منهما أكل مال الآخر بالباطل . وشر من ذلك أن يبيعه ما في بطن الدابة وكذلك إذا باعه الثمرة قبل بدو صلاحها فهذه من أنواع الغرر . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها عموما وخصوصا . وكل ذلك من الميسر الذي حرمه الله في القرآن .
وكذلك بيع الحصاة مثل أن يقول : بعتك من هذه الأرض إلى حيث تبلغ هذه الحصاة أو بعتك - من هذه الثياب ؟ أو الشياه أو الغلمان أو غيره - ما تقع عليه هذه الحصاة فيكون المبيع مجهول القدر أو العين أو الوصف .
وأما " العرايا " فإن النبي صلى الله عليه وسلم استثناها مما نهى عنه من المزابنة ; وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة . " والمزابنة " أن يشتري الرطب في الشجر بخرصه من التمر . و " المحاقلة " أن يشتري الحنطة في سنبلها بخرصها من الحنطة . والخرص هو الحزر والتقدير . فيقال : كم في هذه النخلة ؟ فيقال : خمسة أوسق فيقال : اشتريته بخمسة أوسق . أو كم في هذا الحقل من البر فيقال : خمسة أوسق فيقال : اشتريته بخمسة أوسق .
وأما الخرص : فهو ظن وحسبان يقدر به عند الحاجة والضرورة فأما مع إمكان الكيل والوزن فلا . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة ; لأنهم يحزرون من غير حاجة وأباح ذلك في العرايا لأجل الحاجة ; لأن المشتري يحتاج إلى أكل الرطب بالتمر خرصا ; لأجل حاجته إلى ذلك . ورخص في ذلك في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو ما دون النصاب وهو ما دون خمسة أوسق . وكذلك يجوز لحاجة البائع إلى البيع . كما قد بسط ذلك في موضعه .
ولفظ " العرايا " معناه في اللغة هي النخلات التي يعيرها الرجل لغيره : أي يعطيه إياها ليأكل ثمرها ثم يعيدها إليه كما قال الشاعر يمدح فيه بالكرم : [ ص: 429 ]
فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح
وهذا كما يقال للماشية " المنيحة " : مثل أن يعطيه الناقة أو الشاة ليشرب لبنها ثم يعيدها إليه وهو من جنس العارية . وهو أن يعيره داره ليسكنها ثم يعيدها إليه .
ومنه أفقار الظهر : وهو أن يعطيه دابته ليركب فقارها ثم يعيدها إليه . فهذا أصل هذه اللفظة ; لكن حكم العرايا هل هو مخصوص بما كان موهوبا للمشتري ؟ أو عام في ذلك وفي غيره ؟ فيه قولان للعلماء . والأول قول مالك . والثاني قول الشافعي وفي مذهب أحمد القولان . والله أعلم .