وسئل قدس الله روحه عن " العينة " : هل هي جائزة في دين الإسلام ؟ أم لا ؟ وهل يجوز لأحد أن يقلد فيها بعض من رأى جوازها من الفقهاء أم يجب عليه أن يحتاط لدينه ويتبع النصوص الواردة في ذلك ومن تاب من " مسألة العينة " المذكورة : هل يحل له ما ربحه بطريقها ؟ أم يجب عليه إخراج الربح ورده إلى أربابه إن قدر أو التصدق بذلك ؟ فإن عاد إليها مقلدا بعد العلم ببطلانها : هل يجوز له ذلك ؟ أم لا ؟ وكذلك ما تقولون في " مسألة الثلاثية " ؟ و " مسألة التورق " ؟
والأصل في هذا الباب أن الشراء على ثلاثة أنواع : [ ص: 442 ] أحدها : أن يشتري السلعة من يقصد الانتفاع بها كالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى ونحو ذلك . فهذا هو البيع الذي أحله الله .
والثاني : أن يشتريها من يقصد أن يتجر فيها إما في ذلك البلد وإما في غيره فهذه هي التجارة التي أباحها الله .
والثالث : أن لا يكون مقصوده لا هذا ولا هذا ; بل مقصوده دراهم لحاجته إليها . وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضا أو سلما فيشتري سلعة ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا هو " التورق " وهو مكروه في أظهر قولي العلماء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ; كما قال nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : التورق أخية الربا . وقال ابن عباس : إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به وإذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم .
ومعنى كلامه إذا استقمت ; إذا قومت . يعني : إذا قومت السلعة بنقد وابتعتها إلى أجل فإنما مقصودك دراهم بدراهم هكذا " التورق " يقوم السلعة في الحال ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك . وقد يقول لصاحبه : أريد أن تعطيني ألف درهم فكم تربح ؟ فيقول : مائتين أو نحو ذلك . أو يقول : عندي هذا المال يساوي ألف [ ص: 443 ] درهم أو يحضران من يقومه بألف درهم ثم يبيعه بأكثر منه إلى أجل فهذا مما نهي عنه في الصحيح .
وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة كهذه المعاملات المسئول عنها وغيرها وكان متأولا في ذلك ومعتقدا جوازه لاجتهاد أو تقليد أو تشبه ببعض أهل العلم أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم ونحو ذلك . فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك وأن الذي أفتاهم أخطأ . فإنهم قبضوها بتأويل فليسوا أسوأ حالا مما اكتسبه الكفار بتأويل باطل .
بل أكثر العلماء كمالك وأحمد وأبي حنيفة يقولون بما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وهو : أن الكفار المحاربين إذا استولوا على أموال المسلمين بالمحاربة ثم أسلموا بعد ذلك أو عاهدوا فإنها تقر بأيديهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم بيد المشركين ما كانوا أخذوه من أموال المسلمين حال الكفر ; لأنهم لم يعتقدوا تحريم ذلك وقد أسلموا والإسلام يجب ما قبله فإنما غفر لهم بالإسلام ما تقدم من الكفر والأعمال صاروا مكتسبين لها بما لا يأثمون به .
وإذا كان الأمر كذلك : فالمسلم المتأول الذي يعتقد جواز ما فعله من المبايعات والمؤاجرات والمعاملات التي يفتي فيها بعض العلماء إذا أقبض بها أموال وتبين لأصحابها فيما بعد أن القول الصحيح تحريم ذلك : لم يحرم عليهم ما قبضوه بالتأويل كما لم يحرم على الكفار بعد الإسلام [ ص: 445 ] ما اكتسبوه في حال الكفر بالتأويل ويجوز لغيرهم من المسلمين الذين يعتقدون تحريم ذلك أن يعاملوهم فيه ; كما يجوز للمسلم أن يعامل الذمي فيما في يده من ثمن الخمر وغيره ; لكن عليهم إذا سمعوا العلم أن يتوبوا من هذه المعاملات الربوية ولا يصلح أن يقلد فيها أحدا ممن يفتي بالجواز تقليدا لبعض العلماء ; فإن تحريم هذه المعاملات ثابت بالنصوص والآثار ولم يختلف الصحابة في تحريمها وأصول الشريعة شاهدة بتحريمها .
والمفاسد التي لأجلها حرم الله الربا موجودة في هذه المعاملات مع زيادة مكر وخداع وتعب وعذاب . فإنهم يكلفون من الرؤية والصفة والقبض وغير ذلك من أمور يحتاج إليها في البيع المقصود وهذا البيع ليس مقصودا لهم وإنما المقصود أخذ دراهم بدراهم فيطول عليهم الطريق التي يؤمرون بها فيحصل لهم الربا فهم من أهل الربا المعذبين في الدنيا قبل الآخرة وقلوبهم تشهد بأن هذا الذي يفعلونه مكر وخداع وتلبيس ; ولهذا قال nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان فلو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي .
والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد صنفت كتابا كبيرا في هذا . والله أعلم .