وسئل رحمه الله تعالى عن بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع العلم بأن التفاوت بينهما يسير لا يقوم بمؤنة الضرب ; بل فضة هذه الدراهم أكثر . هل تجوز المقابضة بينهما ؟ أم لا ؟ .
[ ص: 452 ] فأجاب : هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء والجواز فيه له مأخذان ; بل ثلاثة : أحدها : أن هذه الفضة معها نحاس وتلك فضة خالصة والفضة المقرونة بالنحاس أقل . فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين . فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة " مد عجوة " كما هو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين .
والذين منعوا من مسألة " مد عجوة " - وهو بيع الربوي بجنسه إذا كان معهما أو مع أحدهما من غير جنسه - قد علله طائفة منهم - من أصحاب الشافعي وأحمد - بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة وهذه علة ضعيفة ; فإن الانقسام : إذا باع شقصا مشفوعا وما ليس بمشفوع - كالعبد والسيف والثوب - إذا كان لا يحل : عاد الشريك إلى الآخذ بالشفعة . فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه .
[ ص: 453 ] والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا بأن يبيع ألف درهم في كيس بألفي درهم ويجعل الألف الزائدة في مقابلة الكيس كما يجوز ذلك من يجوزه من أصحاب أبي حنيفة .
والصواب في مثل هذا أنه لا يجوز ; لأن المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة فمتى كان المقصود ذلك حرم التوسل إليه بكل طريق فإنما الأعمال بالنيات .
وإذا علم الأخذ . فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة ; بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط ; لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ولا هو بما يحتمل أن [ ص: 454 ] يكون فيه ذلك فيجوز التفاوت .
قالوا : لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولا ميزان عندهم فيجوز كما جازت العرايا . وفرقوا بين ذلك وبين الكيل ; فإن الكيل ممكن ولو بالكف .
وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة . فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة [ ص: 455 ] بأخبار أهل الضرب وأخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم وعرف قدر ما فيها من الفضة فلم يبق في ذلك جهل مؤثر ; بل العلم بذلك أظهر من العلم بالخرص أو نحو ذلك وهم إنما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم ; ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة . ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم بحيث تبقى في بلادهم لفعلوا ذلك وأعطوه أجرته . فهم ينتفعون بما يأخذونه من الدراهم الخالصة ولا يتضررون بذلك . وكذلك أرباب الخالصة إذا أخذوا هذه الدراهم : فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون .
وهذا " مأخذ ثالث " يبين الجواز وهو : أن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل وذلك ظلم يضر المعطي فحرم لما فيه من الضرر . وإذا كان كل من المتقابضين مقابضة أنفع له من كسر دراهمه وهو إلى ما يأخذه محتاج ; كان ذلك مصلحة لهما هما يحتاجان إليها والمنع من ذلك مضرة عليهما . والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة ويوجب المضرة المرجوحة كما قد عرف ذلك من أصول الشرع .
وهذا كما أن من أخذ " السفتجة " من المقرض وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر . والمقترض له دراهم في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض فيقترض منه في بلد دراهم المقرض ويكتب [ ص: 456 ] له سفتجة - أي ورقة - إلى بلد دراهم المقترض فهذا يجوز في أصح قولي العلماء .
وقيل : ينهى عنه لأنه قرض جر منفعة والقرض إذا جر منفعة كان ربا والصحيح الجواز لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض . والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه ; وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم وقد أغناهم الله عنه . والله أعلم .