وسئل رحمه الله عن ناظر وقف أو مال يتيم : هل يجوز له أن يسلم المكان من الوقف أو مال اليتيم لمن يسكنه بغير إجارة شرعية ؟ وإذا أشهد أحد على نفسه أنه استأجر من مباشر الوقف مكانا معينا مدة معينة [ ص: 176 ] بأجرة مسماة وسلم الإجارة للمباشر وتسلم منهم المكان وسكنه مدة وطالبوه بالأجرة المسلمة .
فهل للناظر أن يجعل هذه الإجارة لازمة من جهة المستأجر غير لازمة من جهة نفسه ونوابه ؟ يمنع بها المستأجر من الخروج إذا أراد الخروج ويطالبه بالأجرة المسماة فيها وتقبل عليه الزيادة متى حصلت ممن زاد عليه وإذا لم يكن ذلك جائزا وأصر الناظر على ذلك : هل يكون ذلك قادحا في عدالته وولايته ؟ وهل يجب عليه أن يؤجر الوقف أو مال اليتيم إجارة صحيحة ؟ أم لا ؟ .
فأجاب : ليس له تسليم الوقف ولا مال اليتيم ولا غيرهما مما يتصرف [ فيه ] بحكم الولاية إلا بإجارة شرعية لا يجوز تسليمه إليه بإجارة فاسدة ; بل وكذلك الوكيل مع موكله ليس له أن يسلم ما وكل في إجارته إلا بإجارة شرعية وليس للناظر أن يجعل الإجارة لازمة من جهة المستأجر جائزة من جهة المؤجر فإن هذا خلاف إجماع المسلمين بل إن كان ممن يعتقد صحة الإجارة والبيع ونحوهما بما جرت به العادة - كما هو قول الجمهور - جاز له أن يسلمه بما هو إجارة في العرف وإن كان لا يرى صحة البيع والإجارة ونحوهما إلا باللفظ كان عليه ألا يسلمها إلا إذا أجرها كذلك كان عليه ألا يسلم ما باعه من مال اليتيم وغيره إلا إذا باعه بيعا شرعيا .
وهذا هو القول [ ص: 177 ] الذي عليه جمهور الأئمة وعليه عمل المسلمين من عهد نبيهم وإلى اليوم .
ومن كان يعتقد أنه لا يصح بيع وأنه لا بد من الصيغة من الجانبين : لم يكن له مع وجود هذا الاعتقاد أن يسلم مال اليتيم إلا بعقد صحيح كالإجارة والبيع ونحوهما من العقود التي يجوزها الجمهور بدون اللفظ وبعض العلماء لا يجوزها إلا باللفظ : يجب فيها على كل من اعتقد أن يعمل بموجب اعتقاده له وعليه ; ليس لأحد أن يعتقد أحد القولين فيها له والقول الآخر فيها عليه كمن يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجار .
أو إذا كان من الإخوة للأم - في المسألة المشركة الحمارية - يسقط ولد الأبوين وإذا كان هو من الإخوة للأبوين استحق مشاركة ولد الأم وإذا كان هو المدعي قضي له برد اليمين وإذا كان هو الطالب حكم له بشاهد ويمين وأمثال ذلك كثير .
فليس لأحد أن يعتقد في مسألة نزاع مثل هذا باتفاق المسلمين .
فإن مضمون هذا أن يحلل لنفسه ما يحرمه على مثله ويحرم على مثله ما يحلله لنفسه ويوجب على غيره - الذي هو مثله - ما لا يوجبه على نفسه ويوجب لنفسه على غيره ما لا يوجبه لمثله .
ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ; بل ومن كل دين ; أن هذا لا يجوز ومن اعتقد جواز هذا فهو كافر ; بل من اعتقد صحة [ ص: 178 ] بيع المعاطاة ونحوه من الإجارات التي يعدها أهل العرف بيعا وإجارة : اعتقد أن هذا العقد صحيح منه ومن غيره .
ومن اعتقده باطلا : اعتقده منه ومن غيره .
فالمؤجر الناظر إن اعتقد أحد القولين التزمه له وعليه .
فإن اعتقد بطلان هذا العقد لم يجز له أن يسلم المؤجر ولا يطالب بالأجرة المسماة ولا [ يمنع ] المستأجرين من الخروج .
وكان بمنزلة من سلم العين إلى الغاصب فما تلف تحت يد المستولي كان عليه ضمانه كما لو سلم ماله بعقد فاسد يعتقد هو فساده وإن اعتقد صحة هذا العقد كان له تسليم العين والمطالبة بالأجرة المسماة ولم يكن له أن يقبل زيادة على المستأجر ولا يخرجه قبل انقضاء الأجرة من غير سبب شرعي يوجب الفسخ .
ومتى أصر الناظر على أن يجعله فاسدا بالنسبة إلى المستأجر صحيحا بالنسبة إليه غير لازم بالنسبة إلى المستأجر ; فإنه ظالم جائر وذلك قادح في ولايته وعدالته .
وعليه أن يؤجر ما يؤجره إجارة صحيحة وليس له باتفاق المسلمين أن يؤجر إجارة يعلم أنها غير صحيحة . والله أعلم . [ ص: 179 ]