[ ص: 211 ] وسئل رحمه الله عن إنسان جاءه سائل في صورة مشبب . فشبب . فأعطاه شيئا فكان إنسان حاضرا فقال للمعطى : تحرم عليه هذه العطية على هذه الصورة ; لكون الشبابة وسيلة : فقال : ما أعطيته إلا لكونه فقيرا وبعد هذا لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا ; فإنه قد أباح بعضهم سماع الشبابة واستدل على ذلك بأن { nindex.php?page=hadith&LINKID=600708النبي صلى الله عليه وسلم عبر على راع ومعه ابن عباس أو غيره .
وقال : لو كان سماع الشبابة حراما ; لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان معه بسد أذنيه كما فعل أو نهى الراعي عن التشبيب وهذا دليل الإباحة في حق غير الأنبياء . فهل هذا الخبر صحيح ؟ وهل هذا الدليل موافق للسنة ؟ أم لا ؟
وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا . فإن كان ثابتا فلا حجة فيه لمن أباح الشبابة لا سيما ومذهب الأئمة الأربعة أن الشبابة حرام .
ولم يتنازع فيها من أهل المذاهب الأربعة إلا متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي ; فإنهم ذكروا فيها وجهين .
وأما العراقيون - وهم أعلم بمذهبه - فقطعوا بالتحريم كما قطع به سائر المذاهب . وبكل حال فهذا وجه ضعيف في مذهبه .
وقد قال الشافعي : الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .
وقال أيضا : خلفت في بغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه " التغبير " يصدون به الناس عن القرآن . وآلات الملاهي لا يجوز اتخاذها ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة .
فهذا الحديث إن كان ثابتا فلا حجة فيه على إباحة الشبابة ; بل هو على النهي عنها أولى من وجوه : أحدها : أن المحرم هو الاستماع لا السماع فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه ; بل كان مجتازا [ ص: 213 ] بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين .
[ ص: 214 ] فإذا عرف أن الأمر والنهي والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع ; لا بالسماع فالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر كان مارا مجتازا لم يكن مستمعا وكذلك كان ابن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم ونافع مع ابن عمر : كان سامعا لا مستمعا . فلم يكن عليه سد أذنه .
الوجه الثاني : أنه إنما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة في التحفظ حتى لا يسمع أصلا .
فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع وإن لم يكن في السماع إثم ولو كان الصوت مباحا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح ; بل سد أذنيه لئلا يسمعه وإن لم يكن السماع محرما دل على أن الامتناع من الاستماع أولى .
فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه .
الوجه الثالث : أنه لو قدر أن الاستماع لا يجوز فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متى ينقطع الصوت فيترك المتبوع سد أذنيه .
الرابع : أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغا ; أو كان صغيرا دون البلوغ .
والصبيان يرخص لهم في اللعب ما لا يرخص فيه للبالغ .
الخامس : أن زمارة الراعي ليست مطربة كالشبابة التي يصنع غير الراعي فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الإذن في الموصوف وما يتبعه من الأصوات التي تفعل في النفوس فعل حمي الكؤوس .
[ ص: 215 ] السادس : أنه قد ذكر ابن المنذر اتفاق العلماء على المنع من إجارة الغناء والنوح فقال : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال النائحة والمغنية كره ذلك الشعبي والنخعي ومالك .
وقد رخص فيه بعضهم فكيف بالشبابة التي لم يبحها أحد من العلماء لا للرجال ولا للنساء ; لا في العرس ولا في غيره وإنما يبيحها من ليس من الأئمة المتبوعين المشهورين بالإمامة في الدين .
فقول القائل : لو أعطيته لأجل تشبيبه لكان جائزا .
قول باطل مخالف لمذاهب أئمة المسلمين لو كان التشبيب من الباطل المباح فكيف وهو من الباطل المنهي عنه وهذا يظهر " بالوجه السابع " : وهو أنه ليس كل ما جاز فعله جاز إعطاء العوض عليه .