هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أن ذلك لا يجوز بحال ; بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
من بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها فلا يجوز كما لا يجوز في غير الضمان ; مثلا أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها وقبل بدو صلاحها ; بحيث يكون على البائع مؤنة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح .
وهذا القول هو المعروف في مذهب الشافعي وأحمد وهو منقول عن نصه .
وذكر nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال الحيل " : [ ص: 221 ] أنه يجوز .
وهو المعروف عند أصحاب الشافعي .
وهذه الحيلة قد تعذرت على أصل مصححي الحيل وهي باطلة من وجوه : منها أن الأمكنة كثيرة منها ما يكون وقفا أو يكون ليتيم ونحوه ممن يتصرف في ماله بحكم الولاية والمساقاة على ذلك بجزء يسير لا يجوز واشتراط أحد العقدين من الآخر لا يصح .
ومنها أن الفساد الذي من أجله نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها مثل كون ذلك غررا من جنس القمار وأنه يفضي إلى الخصومات والعداوات التي هي من المفاسد التي حرم القمار لأجلها ونحو ذلك يوجد في مثل هذه المعاملات أكثر مما يوجد عند مجرد بيع الثمر قبل بدو صلاحه ; فإنه قد علم أن المتقبل لذلك لم يبذل ماله إلا بإزاء ما يحصل له من منفعة الأرض والشجر ; لا سيما إذا كانت منفعة الشجر هي الأغلب : كالحدائق والبساتين التي يكون غالبها شجرا أو بياضها قليلا .
فهنا إذا منع الله الثمرة وطولب الضامن بجميع الأجرة كان في ذلك من أكل المال بالباطل ومن الخصومات والشر ما لا خفاء به .
ومنها أن استئجار الأرض التي تساوي مائة درهم بألف درهم هو من أفعال السفهاء المستحقين للحجر وكذلك المساقاة على الشجر بجزء [ ص: 222 ] من ألف جزء لربها هو من أفعال السفهاء التي يستحق عليها الحجر .
فمن فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه فضلا عن إمضاء العقد والحكم بصحته .
ولو قيل : إن له محاباة في هذا العقد لما يحصل من محاباة الآخر له في العقد .
قيل له : إن كان هذا مستحقا لزم أن يكون أحد العقدين شرطا في الآخر وإن لم يكن مستحقا كان محابيا في هذا العقد وليس محاباة للآخر في ذلك العقد .
وهذا إنما ينفع إذا حصل التقابض فلو حابا رجلا في سلعة وحاباه آخر في أخرى وتقابضا فقد يقال : إن الغرض يحصل بذلك ; إما في مثل هذا وإما في مثل هذا والثمر قد يحصل وقد لا يحصل وذاك له أن يطالبه بجميع الأجرة وإن لم يحصل الثمر فليس هذا من أفعال الرشد بل من أفعال السفهاء المستحقين للحجر ; لا سيما إن كان المتصرف من لا يملك التبرع : كناظر الوقف واليتيم ; فإنه يقول له : إنه يجب علي مطالبتك بجميع الأجرة حصلت الثمرة أو لم تحصل .
فهل يدخل رشيد في مثل هذا فيبذل ألف درهم في قيمة أرض تساوي مائة درهم طمعا في أن يسلم الثمرة وتحصل له والأجرة عليه حصلت الثمرة أو لم تحصل ؟ ولو فعل هذا .
فهل هذا إلا دخول في نفس ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا المستأجر إذا بذل ماله لتحصل له الثمرة هو في معنى المشتري الذي نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قولهم فكيف يبذل ماله في مثل ذلك .
والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع .
وليس الفقيه من عمد إلى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم دفعا لفساد يحصل لهم فعدل عنه إلى فساد أشد منه فإن هذا بمنزلة المستجير من الرمضاء بالنار .
وهذا يعلم من قاعدة إبطال الحيل فإن كثيرا منها يتضمن من الفساد والضرر أكثر مما في إتيان المنهي عنه ظاهرا كما قال nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب السختياني : يخادعون الله . كأنما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون علي .
ولهذا يوجد في نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد في نكاح المتعة ; إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت والمحلل لا غرض له في ذلك فكل فساد نهي عنه المتمتع فهو في التحليل وزيادة ; ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة .
والمتعة أبيحت أول الإسلام [ ص: 224 ] وتنازع السلف في بقاء الحل .
ونكاح التحليل لم يبح قط ولا تنازع السلف في تحريمه .
ومن شنع على الشيعة بإباحة المتعة مع إباحته للتحليل فقد سلطهم على القدح في السنة كما تسلطت النصارى على القدح في الإسلام بمثل إباحة التحليل . حتى قالوا : إن هؤلاء قال لهم نبيهم : إذا طلق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني .
وذلك أن نكاح التحليل سفاح كما سماه الصحابة بذلك .
والقول الثاني : في أصل المسألة أنه إن كان منفعة الأرض هو المقصود والشجر تبع جاز أن تؤجر الأرض ويدخل في ذلك الشجر تبعا . وهذا مذهب مالك وهو يقدر التابع بقدر الثلث .
وصاحب هذا القول يجوز بيع الثمر قبل بدو الصلاح ما يدخل ضمنا وتبعا كما جاز إذا ابتاع ثمرة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والمبتاع هنا قد اشترى الثمر قبل بدو صلاحه ; لكن تبعا للأصل .
وهذا جائز باتفاق العلماء فيقيس ما كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع .
والقول الثالث : أنه يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا وإن كان الشجر أكثر .
وهذا قول Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل وهو المأثور عن أمير [ ص: 225 ] المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ; فإنه قبل حديقة nindex.php?page=showalam&ids=168أسيد بن حضير ثلاث سنين وأخذ القبالة فوفى بها دينه .
روى ذلك nindex.php?page=showalam&ids=15703حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في مسائله المشهورة عن أحمد ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما وهو معروف عن عمر .
والحدائق التي بالمدينة يغلب عليها الشجر .
وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب وزعم أنه خلاف الإجماع وليس بشيء ; بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب ; فإن عمر فعل ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار وهذه القضية في مظنة الاشتهار ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن فعله عمر كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره ما فعله من متعة الحج ; وإنما هذه القضية بمنزلة توريث nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها في مرض موته وأمثال هذه القضية .
والذي فعله nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب هو الصواب .
[ و ] إذا تدبر الفقيه أصول الشريعة تبين له أن مثل هذا المال ليس داخلا فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يظهر بأمور : أحدها أن يقال : معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة ويمكن فيها بيع حبها قبل أن يشتد .
ثم النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن بيع الحب حتى يشتد لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض وإن [ ص: 226 ] كان مقصود المستأجر هو الحب ; فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب ; بخلاف المشتري فإنه يشتري حبا مجردا وعلى البائع تمام خدمته حتى يتحصل فكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود ليس نهيا عمن يأخذ الشجر فيقوم عليها ويسقيها حتى تثمر ; وإنما النهي لمن اشترى عنبا مجردا وعلى البائع خدمته حتى يكمل صلاحه كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمى الكروم ; ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها ; بخلاف التضمين .
الوجه الثاني : أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر وكلاهما جائز عند فقهاء الحديث ; كالإمام أحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر .
وعند nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعد وغيرهم من الأئمة جائزة كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أصحابه من بعده والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة فتكون إجارة بعوض مجهول وذلك لا يجوز .
وأبو حنيفة طرد قياسه فلم يجوزها بحال .
وأما الشافعي فاستثنى ما تدعو إليه الحاجة كالبياض إذا دخل تبعا للشجر في المساقاة وكذلك مالك ; لكن يراعى القلة والكثرة على أصله .
وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس ظنا أنها من [ ص: 227 ] باب الإجارة بعوض مجهول وأنها جوزت للحاجة ; لأن صاحب النقد لا يمكنه إجارتها .
والتحقيق : أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات .
والمزارعة مشاركة ; هذا يشارك بنفع بدنه وهذا بنفع ماله وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان ; ولهذا ليس العمل فيها مقصودا ولا معلوما كما يقصد ويعلم في الإجارة ولو كانت إجارة لوجب أن يكون العمل فيها معلوما ; لكن إذا قيل : هي جعالة كان أشبه ; فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوما وكذلك هي عقد جائز غير لازم ; ولكن ليست جعالة أيضا ; فإن الجعالة يكون المقصود لأحدهما من غير جنس مقصود الآخر .
هذا يقصد رد آبقه أو بناء حائطه وهذا يقصد الجعل المشروط .
والمساقاة والمزارعة والمضاربة هما يشتركان في جنس المقصود وهو الربح مستويان في المغنم والمغرم إن أخذ هذا أخذ هذا وإن حرم هذا حرم هذا .
ولهذا وجب أن يكون المشروط لأحدهما جزءا مشاعا من الربح من جنس المشروط للآخر وأنه لا يجوز أن يكون مقدرا معلوما فعلم أنها من باب المشاركة كما في شركة العنان فإنهما يشتركان في الربح ولو شرط مال مقدر من الربح أو غيره : لم يجز .
وهذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المخابرة كما جاء ذلك [ ص: 228 ] مفسرا في صحيح مسلم . وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج أنهم كانوا يكرون الأرض ويشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها .
كما تنبت الماذيانات والجداول فربما سلم هذا ولم يسلم هذا .
وهذا من فقه الليث الذي قال فيه الشافعي : كان الليث أفقه من مالك .
فإنه بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم موافق لقياس الأصول ; لما فيه من أن يشترط لأحد الشريكين شيء معين من الربح .
والشركة حقها العدل بين الشريكين فيما لهما من المغنم وعليهما من المغرم . فإذا خرجت كان ظلما محرما . وأين من يجعل ما جاءت به السنة موافقا للأصول إلى من يجعل ما جاءت به السنة مخالفا للأصول .
ومن أعطى النظر حقه علم أن ما جاءت به السنة من النهي عن هذه المخابرة ومن معاملة أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع بدون هذا الشرط وما عمل به الصحابة من المضاربة : كل ذلك على وفق القياس .
وأن هذا من جنس المشاركات لا من جنس المؤجرات .
وإذا كان كذلك فنقول : معلوم أنه إذا ساقاه على الشجر بجزء من الثمرة كان كما إذا زارعه [ ص: 229 ] على الأرض بجزء من الزرع وضاربه على النقد بجزء من الربح فقد جعلت الثمرة من باب النماء والفائدة الحاصلة ببدن هذا ومال هذا .
والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرة ليس للمشتري عمل في حصوله أصلا ; بل العمل كله على البائع فإذا استأجر الأرض والشجر حتى حصل له ثمر وزرع . كان كما إذا استأجر الأرض حتى يحصل له الزرع .
الوجه الثالث : أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بثمرها كما يقف الأرض لينتفعوا بمغلها ويجوز إعراء الشجر كما يجوز إفقار الظهر وعارية الدار ومنيحة اللبن .
وهذا كله تبرع بنماء المال وفائدته ; فإن من دفع عقاره إلى من يسكنه كان بمنزلة من دفع دابته إلى من يركبها وبمنزلة من دفع شجره إلى من يستثمرها وبمنزلة من دفع أرضه إلى من يزرعها وبمنزلة من دفع الناقة والشاة إلى من يشرب لبنها .
فهذه الفوائد تدخل في عقود التبرع سواء كان الأصل محبسا كالوقف أو غير محبس .
وتدخل أيضا في عقود المشاركات فكذلك تدخل في عقود المعاوضات .
فإن قيل : إن هذا يقتضي أن الأعيان معقود عليها في الإجارة والإجارة إنما هي عقد على المنافع لا على الأعيان وإنما جازت إجارة الظئر على خلاف القياس .
قيل : الجواب من وجهين .
[ ص: 230 ] أحدهما : أن تقبيل الأرض والشجر ليس هو عقدا على عين وإنما هو بمنزلة إجارة الأرض للازدراع فالعين هي مقصود المستأجر ; فإنه إنما استأجر الأرض ليحصل له الزرع ; لكن العقد ورد على المنافع التي هي شبه هذه الأعيان .
الوجه الثاني : أن يقال لا نسلم أن إجارة الظئر على خلاف القياس وكيف يقال : وليس في القرآن إجارة منصوصة في شريعتنا إلا إجارة الظئر بقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } .
وإنما ظن من ظن أنها خلاف القياس حيث توهم أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة وليس الأمر كذلك ; بل الإجارة تكون على كل ما يستوفى مع بقاء أصله سواء كانت عينا أو منفعة .
فلما كان لبن الظئر يستوفى مع بقاء الأصل ونقع البئر يستوفى مع بقاء الأصل : جازت الإجارة عليه كما جازت على المنفعة ; فإن هذه الأعيان يحدثها الله شيئا بعد شيء وأصلها باق كما يحدث الله المنافع شيئا بعد شيء وأصلها باق ; ولهذا جاز وقف هذه الأصول لاستثناء هذه الفوائد أعيانها ومنافعها .
والمزارعة إنما تكون بدليل [ ص: 231 ] شرعي نص أو إجماع أو قياس ونحوه وأما مسائل النزاع إذا عورض فنجيب عنها بجواب عام : وهو إن كان ما ذكرناه من الدليل موجبا لصحة هذه الإجارة لزم طرد الدليل والعمل بذلك .
وإن لم يكن موجبا لم يكن نقصا .
والدليل الذي يقال : إنه مفسد لهذه الإجارة .
إن أمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الدليل فلا منافاة وإلا فما ذكرناه راجح ; إذ المنافع إنما يستند منعها إلى جنس ما يذكره في مورد النزاع هنا .
فإن قيل : إن Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعا ; لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك ; لكن مالك اعتبر القلة في الشجر Multitarajem.php?tid=13371,13372وابن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها في الإجارة كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة .
ومن حجة Multitarajem.php?tid=13371,13372ابن عقيل : أن غاية ما في ذلك جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه تبعا لغيره لأجل الحاجة وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا باع شجرا وعليها ثمر باد بما يشترطه المبتاع فإنه اشترى شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس وأنه جائز بدون الحاجة حتى مع الانفراد .
[ ص: 232 ] قيل : هذا زيادة توكيد ; فإن هذه المسألة لها مأخذان أحدهما : أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة .
كما في نظائره .
والثاني : أن يمنع هذا ويقال : لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع ; بل الدليل لا يتناول مثل هذه الصورة ; لا لفظا ولا معنى .
أما لفظا فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها ولو كان قد باع لكان عليه مؤنة التوفية كما لو باعها بعد بدو صلاحها فإن مؤنة التوفية عليه أيضا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التي فتحت عنوة سواء قيل : إنه يجب في الأرض التي فتحت عنوة أو تجعل فيئا كما قاله مالك وهو رواية عن أحمد .
أو قيل : إنه يجب قسمتها بين الغانمين كما قاله الشافعي وهو رواية عن الإمام .
أو قيل : يخير الإمام فيها بين هذا وهذا كما هو مذهب أبي حنيفة والثوري nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد ونحوهم .
وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد .
فإن الشافعي يقول : إن عمر استطاب أنفس الغانمين حتى جعلها فيئا وضرب الخراج عليها فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضع الخراج على أرض العنوة جائز إذا لم يكن فيه ظلم للغانمين .
[ ص: 233 ] ثم الخراج عند أكثرهم أجرة الأرض وأنه لم يقدر مدة الإجارة لعموم مصلحتها والخراج ضريبة على الأرض التي فيها شجر والأرض البيضاء .
وضرب على جريب النخل مقدارا وعلى جريب الكرم مقدارا .
وهذا بعينه إجارة للأرض مع الشجر ; فإن كان جواز هذا على وفق القياس فهو المطلوب .
وإن كان جواز ذلك لحاجة داعية إلى ذلك ; فإن الناس لهم بساتين فيها مساكن ولها أجور وافرة فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة : تعطلت منفعة المساكن عليها كما في أرض دمشق ونحوها .
ثم قد يكون وقفا أو ليتيم ونحو ذلك .
فكيف يجوز تعطيل منفعة المسكن المبنية في تلك الحدائق .
وقد تكون منفعة المسكن هي أكثر المنفعة ومنفعة الشجر والأرض تابعة فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن ولا يمكن أن تؤجر دون منفعة الأرض والشجر ; فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرر هذا وهذا تضرر : ببناء المساكن ويبقى ممنوعا من الانتفاع بالثمر والزرع هو وعياله مع كونه عندهم ويتضررون بدخول العامل عليهم في دارهم والعامل أيضا لا يبقى مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه ; بل يخاف عليها في مغيبه .
وما كل ساكن أمينا ولو كان أمينا لم تؤمن الضيفان والصبيان والنسوان . وكل هذا معلوم .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة وهي بيع [ ص: 234 ] الرطب بالتمر ; لما في ذلك من بيع الربوي بجنسه مجازفة - وباب الربا أشد من باب الميسر - ثم إنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها ; لأجل الحاجة وأمر رجلا أن يبيع شجرة له في ملك الغير لتضرره بذلك لدخوله عليه أو يهبها له فلما لم يفعل أمر بقلعها .
فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار كما أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعا لضرر المشاركة والمقاسمة . فكيف إذا كان الضرر ما ذكر .
ومعلوم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأمرنا بتقديم خير الخيرين بتفويت أدناهما وبدفع شر الشرين باحتمال أدناهما . والفساد في ذلك أعظم مما ذكرنا من حصول ضرر ما لأحد المتعوضين فإن هذا ضرر كثير محقق وذاك إن حصل فيه ضرر فهو قليل مشكوك فيه .
وأيضا فالمساقاة والمزارعة تعتمد أمانة العامل وقد يتعذر ذلك كثيرا فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التي فيها مال مضمون في الذمة ; ولهذا يعدل كثير من الناس في كثير من الأمكنة والأزمنة عن المزارعة إلى المؤاجرة ; لأجل ذلك ومعلوم أن الشريعة توجب ما توجبه بحسب الإمكان وتشترط في العبادات والعقود ما تشترطه بحسب الإمكان ; ولهذا جاز أن ينفذ من ولي الأمر - مع فجوره - من ولايته وقسمته [ ص: 235 ] وحكمه ما يسوغ وإن كان ولي الأمر يجب فيه أن يكون عدلا إذا أمكن ذلك بلا مفسدة راجحة .
وكذلك أئمة الصلاة إذا لم تمكن الصلاة إلا خلف الفاجر .
فإذا لم يمكن دفع الأرض إلا إلى فاجر وائتمانه عليها يوجب الفساد ; احتيج إلى أن تدفع إليه مؤاجرة .
فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة .
وأيضا فقد لا يتفق من يأخذها مشاركة كالمساقاة أو المزارعة ; فإن لم تدفع مؤاجرة وإلا تعطلت وتضرر أهلها وإن كانوا فقراء .
وليس في هذا من الفساد إلا إمكان نقص الثمر عن الوجه المعتاد فيبقى ذلك مخاطرة .
وذلك لأن الثمرة قبضت ولم تقبض قبضا تاما بحيث يتمكن القابض من جذاذها كما أن المستأجر إذا قبض العين لم يحصل القبض التام الذي يتمكن به من استيفاء جميع المنفعة فإذا تلفت المنفعة قبل [ ص: 236 ] تمكنه من استيفائها سقطت الأجرة فكذلك إذا تلفت الثمرة قبل التمكن من الجذاذ سقط الثمن .
فهنا المستأجر للبستان إذا قدر أنه حصلت آفة منعت الأرض عن المنفعة المعتادة - كما لو نقص ماء المطر والأنهار حتى نقصت المنفعة عن الوجه المعتاد ; لأن المعقود عليه لا بد أن يبقى على الذي يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منه فإذا خرج عن هذه الحال - كان للمستأجر إما الفسخ وإما الأرش ; وليس من باب وضع الجائحة في الممتنع .
كما في الثمر المشترى بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها .
وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض سواء بسواء .
إنما يتسلم الأصول وهو الذي يقوم عليها حتى يشتد الزرع ويبدو صلاح الثمر كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة فإن جاز أن يقال : إن هذا مشتر للثمرة فليقل إن المستأجر مشتر للزرع وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء فإذا كان هذا لا يدخل في مسمى البيع امتنع شمول العموم له لفظا ويمتنع إلحاقه من جهة القياس أو شمول العموم المعنوي له ; لأن الفرق بينهما في غاية الظهور ; فإن إلحاق هذه الإجارة للأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي المضاربة والوقف وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم الآخر : أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم .
[ ص: 237 ] وكل من نظر في هذا نظرا صحيحا سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمى الضمانات .
كما تسميه العامة ضمانا وكما سماه السلف قبالة ; ليس هو من باب المبايعات .
وأحكام البيع منتفية في هذا من كون مؤنة التوفية على البائع وكل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات : مثل نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وهو بيع ما في أصلاب الفحول وأرحام الإناث ونتاج النتاج .
وهو المعاومة وأمثال ذلك إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم تخلق بعد وأصولها يقوم عليها البائع فهو الذي يستنتجها ويستثمرها ويسلم إلى المشتري ما يحصل من النتاج والثمرة وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه .
وهذا على تفسير الجمهور في " حبل الحبلة " أنه بيع نتاج النتاج فإنه يكون إبطاله لجهالة الأجل وهذه البيوع التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي من باب القمار الذي هو ميسر وذلك أكل مال بالباطل وأصحاب هذه الأصول يمكنهم تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد وإنما يفعلون هذا مخاطرة ومباختة .
والتجارات بضمان البستان لمن يقوم عليه كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويغرس فيها ونحو ذلك .
[ ص: 238 ] وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها فإنه لا تجب أجرة ذلك مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من الانتفاع وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه ; مثل أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز كان ذلك من ضمان البائع بلا نزاع ; لكن تنازعوا في تلفه بعد التمكن من القبض .
وقبل القبض ; كمن اشترى معيبا ومكن من قبضه .
وفيه قولان مشهوران .
أحدهما : أنه لا يضمنه كقول مالك وأحمد في المشهور عنه ; لقول ابن عمر : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المشتري .
والثاني : يضمنه كقول أبي حنيفة والشافعي ; لكن أبو حنيفة يستثني العقار .
ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبض كقول أحمد في إحدى الروايتين .
وأما أبو حنيفة فمذهبه أن التبقية ليست من مقتضى العقد ولا يجوز اشتراطها .
والأولون يقولون : قبض هذا بمنزلة قبض المنفعة في الإجارات وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان ; لأن القابض لم يتمكن من استيفاء المقصود .
وهذا طرد أصلهم في أن المعتبر هو القدرة على الاستيفاء المقصود بالعقد ولهذا يقولون : لو أن المشتري فرط في قبض الثمرة بعد كمال صلاحها حتى تلفت كانت من ضمانه كما لو فرط في قبض المعين حتى تلف .
وهذا ظاهر في المناسبة والتأثير ; فإن البائع إذا لم يكن منه تفريط فيما يجب عليه وإنما التفريط من المشتري : كان إحالة الضمان على المفرط أولى من إحالته على من قام بما يجب عليه ولم يفرط ; ولهذا اتفقوا على مثل ذلك في الإجارة ; فإن المستأجر لو فرط في استيفاء المنافع حتى تلفت كانت من ضمانه .
ولو تلفت بغير تفريط كانت من ضمان المؤجر .
وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم تكن عليه الأجرة .
وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع .
ومن فرق بينه وبين الثمر والمنفعة قال : الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة .
وهنا الزرع ليس بمعقود عليه ; بل المعقود عليه المنفعة وقد استوفاها ; ومن سوى بينهما قال : المقصود بالإجارة هو الزرع فإذا [ ص: 240 ] حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة كان قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه والمؤجر وإن لم يعاوض على زرع فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها من حصول الزرع فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع .
ولا فرق بين تعطل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها ; إذا لم يتمكن من استيفائها بشيء من المنفعة .
ومعلوم أن الآفة السماوية إذا فقد الزرع مطلقا ; بحيث لا يمكن الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة فلا فرق بين تقدمها وتأخرها . وعلى هذا تنبني مسألة " ضمان الحدائق " والله أعلم .