صفحة جزء
وأما " العمريتان " فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث مع الأب والزوج ; بل إنما أعطاها الله الثلث إذ ورثت المال هي والأب فكان القرآن قد دل على أن ما ورثته هي والأب تأخذ ثلثه والأب ثلثيه واستدل بهذا أكابر الصحابة : كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد وجمهور العلماء على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين يكونان فيه أثلاثا قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين والوصية . ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا فمن أعطاها الثلث مطلقا حتى مع الزوجة فقد خالف مفهوم القرآن .

وأما الجمهور فقد عملوا بالمفهوم فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرث بل إن ورثه أبوه فلأمه الثلث مطلقا وأما إذا لم يرثه أبوه ; بل ورثه من دون الأب : كالجد والعم والأخ فهي بالثلث أولى فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب فمع غيره من العصبة أولى . [ ص: 344 ] فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب ; أو عصبة غير الأب سوى الابن ; فلأمه الثلث ; وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ; وأما الابن فإنه أقوى من الأب ; فلها معه السدس . وإذا كان مع العصبة ذو فرض فالبنات والأخوات قد أعطوا الأم معهن السدس والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من الإخوة فمع الأنثى أولى . وإنما الحجب عن الثلث إلى السدس بالإخوة ; والواحد ليس إخوة . فإذا كانت مع الأخ الواحد تأخذ الثلث فمع العم وغيره بطريق الأولى . وفي الجد نزاع : يروى عن ابن مسعود والجمهور على أنها مع الجد تأخذ ثلث المال وهو الصواب ; لأن الجد أبعد منها ; وهو محجوب بالأب فلا يحجبها عن شيء من حقها ; ومحض القياس أن الأب مع الأم ; كالبنت من الابن والأخت مع الأخ لأنهما ذكر وأنثى من جنس واحد هما عصبة . وقد أعطيت الزوجة نصف ما يعطاه الزوج ; لأنهما ذكر وأنثى من جنس .

وأما دلالة الكتاب في ميراث الأم ; فإن الله يقول : { لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } فالله تعالى فرض لها بشرطين : أن لا يكون له ولد . وأن يرثه أبوه ; فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى الثلث مطلقا مع عدم الولد [ ص: 345 ] وهذا مما يدل على صحة قول أكابر الصحابة والجمهور الذين يقولون : لا تعطى في " العمريتين " - زوج وأبوان ; وزوجة وأبوان - ثلث جميع المال . قال ابن عباس وموافقوه : فإنها لو أعطيت الثلث هنا لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا وهو خلاف ما دل عليه القرآن . وقد روي عنه أنه قال لزيد : أفي كتاب الله ثلث ما بقي ؟ أي ليس في كتاب الله إلا سدس وثلث . فيقال : وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا فكيف يعطيها مع الزوجين الثلث بل في كتاب الله ما يمنع إعطاءها الثلث مع الأب وأحد الزوجين . فإنه لو كان كذلك كان يقول : فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث . فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقا ; فلما خص الثلث ببعض الحال : علم أنها لا تستحق مطلقا .

فهذا مفهوم المخالفة الذي يسمى دليل الخطاب يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث إلا العمريتين ولا وجه لإعطائها الثلث مع مخالفته للإجماع . إلى أن قال : فإن قوله : { وورثه أبواه فلأمه الثلث } دل على أن لها الثلث والباقي للأب بقوله ورثه أبواه فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما ثم أخرج نصيبها دل على أن الباقي نصيبه . وإذا أعطي الأب الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطي . وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وبقوله : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ ص: 346 ] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم { ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر } .

التالي السابق


الخدمات العلمية