فأجاب : قد وصف الله تعالى نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله " بالعلو والاستواء على العرش والفوقية " في كتابه في آيات كثيرة حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي : في القرآن " ألف دليل " أو أزيد : تدل على أن الله تعالى عال على الخلق وأنه فوق عباده .
وقال غيره : فيه " ثلاثمائة " دليل تدل على ذلك ; مثل قوله : { إن الذين عند ربك } { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } فلو كان المراد بأن معنى عنده في قدرته - كما يقول الجهمي - لكان الخلق كلهم عنده ; فإنهم كلهم في قدرته ومشيئته ولم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده .
كما أن الاستواء على العرش لو كان المراد به الاستيلاء عليه لكان مستويا على جميع المخلوقات ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائما والاستواء [ ص: 122 ] مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض كما أخبر بذلك في كتابه ; فدل على أنه تارة كان مستويا عليه وتارة لم يكن مستويا عليه ; ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل ; والشرع عند الأئمة المثبتة وأما الاستواء على العرش : فمن الصفات المعلومة بالسمع فقط دون العقل .
وافترق الناس في هذا المقام ( أربع فرق : " فالجهمية " النفاة الذين يقولون : لا هو داخل العالم ولا خارج العالم ولا فوق ولا تحت ; لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته ; بل الجميع عندهم متأول أو مفوض وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص ; كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم ; إلا الجهمية ; فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي .
ولهذا قال ابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=17399ويوسف بن أسباط : " الجهمية " خارجون عن [ ص: 123 ] الثلاث وسبعين فرقة وهذا أعدل الوجهين لأصحاب أحمد ذكرهما أبو عبد الله ابن حامد وغيره .
( وقسم ثان يقولون : إنه بذاته في كل مكان كما يقول ذلك النجارية وكثير من الجهمية عبادهم وصوفيتهم وعوامهم . ويقولون : إنه عين وجود المخلوقات . كما يقوله : " أهل الوحدة " القائلون بأن الوجود واحد ومن يكون قوله مركبا من الحلول والاتحاد .
[ ص: 124 ] ولهذا قال ابن عربي : من أسمائه الحسنى ( العلي على من يكون عليا وما ثم إلا هو وعن ماذا يكون عليا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات ; فالمسمى محدثات هي العلية هي لذاتها وليست إلا هو .
قال الخراز : وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله يعرف بجمعه بين الأضداد فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره ; وما ثم من تراه غيره ; وما ثم من يبطن عنه سواه فهو ظاهر لنفسه وهو باطن عن نفسه وهو المسمى أبو سعيد الخراز ا هـ .
و " المعية " لا تدل على الممازجة والمخالطة وكذلك لفظ " القرب " فإن عند الحلولية أنه في حبل الوريد كما هو عندهم في سائر الأعيان ; وكل هذا كفر وجهل بالقرآن .
( الثالث : قول من يقول : هو فوق العرش وهو في كل مكان ويقول : أنا أقر بهذه النصوص وهذه لا أصرف واحدا منها عن ظاهره ; وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في " المقالات الإسلامية " وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي Multitarajem.php?tid=12981,12982وابن برجان وغيرهما مع ما في كلام أكثرهم من التناقض .
ولهذا كان أبو علي الأهوازي - الذي صنف مثالب ابن أبي بشر ورد على أبي القاسم بن عساكر - هو من السالمية .
[ ص: 125 ] وكذلك ذكر الخطيب البغدادي : أن جماعة أنكروا على أبي طالب بعض كلامه في الصفات .
وهذا " الصنف الثالث " وإن كان أقرب إلى التمسك بالنصوص وأبعد عن مخالفتها من الصنفين الأولين ; فإن الأول لم يتبع شيئا من النصوص ; بل خالفها كلها .
و " الثاني " ترك النصوص الكثيرة المحكمة المبينة وتعلق بنصوص قليلة اشتبهت عليه معانيها .
وأما هذا الصنف فيقول : أنا اتبعت النصوص كلها ; لكنه غالط أيضا ; فكل من قال : إن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة ; وإجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده ; ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة .
وهؤلاء يقولون أقوالا متناقضة . يقولون : إنه فوق العرش . ويقولون : نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف ; كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان ; وما يتبع ذلك . فإن قالوا : إن العرش كذلك نقضوا قولهم : إنه نفسه فوق العرش . وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين ; كان ذلك قولا بالحلول الخاص .
[ ص: 126 ] وقد وقع طائفة من الصوفية - حتى صاحب " منازل السائرين " في توحيده المذكور في آخر المنازل - في مثل هذا الحلول ; ولهذا كان أئمة القوم يحذرون عن مثل هذا .
سئل الجنيد عن التوحيد . فقال : هو إفراد الحدوث عن القدم . فبين أنه لا بد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدث المخلوق فلا يخلط أحدهما بالآخر . وهؤلاء يقولون في أهل المعرفة ما قالته النصارى في المسيح والشيعة في أئمتها ; وكثير من الحلولية والإباحية ينكر على الجنيد وأمثاله من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة ما قالوه من نفي الحلول وما قالوه في إثبات الأمر والنهي ويرى أنهم لم يكملوا معرفة الحقيقة كما كملها هو وأمثاله من الحلولية والإباحية .
( الرابع هم " سلف الأمة وأئمتها " أئمة أهل العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة ; فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف للكلم عن مواضعه ; أثبتوا أن الله فوق سمواته على عرشه ; بائن من خلقه وهم بائنون منه .
وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية وهو أيضا قريب مجيب ; ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم .
وقوله : { فأولئك مع المؤمنين } يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم ; فالله تعالى عالم بعباده وهو معهم أينما كانوا وعلمه بهم من لوازم المعية ; كما قالت المرأة : زوجي طويل النجاد ; عظيم الرماد ; قريب البيت من الناد فهذا كله حقيقة ومقصودها : أن تعرف لوازم ذلك وهو طول القامة والكرم بكثرة الطعام ; وقرب البيت من موضع الأضياف .
وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد ; تحذيرا وتخويفا ورغبة للنفوس في الخير . ويصف نفسه بالقدرة والسمع والرؤية والكتاب فمدلول اللفظ مراد منه وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى . فقد أريد ما يدل [ ص: 128 ] عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة والالتزام ; فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط بل أريد به مدلوله الملزوم وذلك حقيقة .
ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل وجبريل سمعه من الله عز وجل وأما قوله : نتلوا ونقص ونحوه ; فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم ; الذي له أعوان يطيعونه فإذا فعل أعوانه فعلا بأمره قال : نحن فعلنا . كما يقول الملك : نحن فتحنا هذا البلد . وهو منا هذا الجيش ونحو ذلك .
[ ص: 129 ] فإنه سبحانه وتعالى هو وملائكته : يعلمون ما توسوس به نفس العبد من حسنة وسيئة والهم في النفس قبل العمل . فقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } هو قرب ذوات الملائكة وقرب علم الله ; فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد ; فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إلى بعضه من بعض ; ولهذا قال في تمام الآية : { إذ يتلقى المتلقيان } فقوله ( إذ ) ظرف . فأخبر أنهم أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان ما يقول . فهذا كله خبر عن الملائكة .
فإذا تبين ذلك ; فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله تعالى ; والروح لها عروج يناسبها . فتقرب إلى الله بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب فيكون الله عز وجل منها قريبا قربا يلزم من تقربها ; ويكون منه قرب آخر ; كقربه عشية عرفة وفي جوف الليل وإلى من تقرب منه شبرا تقرب منه ذراعا . والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه والتقرب والرقة ما لا يوجد في غير [ ص: 131 ] ذلك الوقت . وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا وقوله : { nindex.php?page=hadith&LINKID=595808هل من داع ؟ هل من سائل ؟ هل من تائب } ؟ .
ثم إن هذا النزول : هل هو كدنوه عشية عرفة ؟ لا يحصل لغير الحاج في سائر البلاد - إذ ليس بها وقوف مشروع ولا مباهاة الملائكة وكما أن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين إذا دخل شهر رمضان : إنما هو للمسلمين الذين يصومون رمضان ; لا الكفار الذين لا يرون له حرمة وكذلك اطلاعه يوم بدر وقوله لهم : { nindex.php?page=hadith&LINKID=595809اعملوا ما شئتم } كان مختصا بأولئك - أم هو عام ؟ فيه كلام ليس هذا موضعه . والكلام في هذا القرب : من جنس الكلام في نزوله كل ليلة ودنوه عشية عرفة وتكليمه لموسى من الشجرة وقوله : { أن بورك من في النار ومن حولها } .
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما قاله السلف في مثل ذلك : مثل nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد وإسحاق بن راهويه وغيرهما ; من أنه ينزل إلى سماء الدنيا ولا يخلو منه العرش وبينا أن هذا هو الصواب ; وإن كان طائفة ممن يدعي السنة يظن خلو العرش منه .
وقد صنف أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في ذلك مصنفا وزيف قول من قال : ينزل ولا يخلو منه العرش وضعف ما قيل في ذلك : عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل [ ص: 132 ] في رسالته إلى مسدد وطعن في هذه الرسالة . وقال : إنها مكذوبة على أحمد وتكلم على راويها " البردعي أحمد بن محمد " . وقال : إنه مجهول لا يعرف في أصحاب أحمد .
وطائفة تقف لا تقول يخلو ولا لا يخلو وتنكر على من يقول ذلك . منهم : الحافظ عبد الغني المقدسي .
والصواب : قول " السلف " : أنه ينزل ولا يخلو منه العرش وروح العبد في بدنه لا تزال ليلا ونهارا إلى أن يموت ووقت النوم تعرج وقد تسجد تحت العرش وهي لم تفارق جسده . وكذلك أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد وروحه في بدنه وأحكام الأرواح مخالف لأحكام الأبدان فكيف بالملائكة فكيف برب العالمين .
والليل يختلف : فيكون ثلث الليل بالمشرق قبل ثلثه بالمغرب ونزوله الذي أخبر به رسوله إلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم وإلى سماء هؤلاء في ثلث ليلهم . لا يشغله شأن عن شأن وكذلك سبحانه لا يشغله سمع عن سمع . ولا تغلطه المسائل ; بل هو سبحانه يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم لا يشغله هذا عن هذا .
[ ص: 133 ] وقد قيل لابن عباس : كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة ؟ قال : كما يرزقهم كلهم في ساعة واحدة . والله سبحانه في الدنيا يسمع دعاء الداعين ويجيب السائلين مع اختلاف اللغات وفنون الحاجات والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة ; لكن لا يكون إلا عددا قليلا قريبا منه ويجد في نفسه قربا ودنوا وميلا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين دون بعض ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب .
و " الرب تعالى " واسع عليم وسع سمعه الأصوات كلها وعطاؤه الحاجات كلها .
ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان : إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه ; فيجد نفسه تقرب من نفوس كثيرين من الناس ; من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا .
و " بالجملة " فقرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه : أمر معروف لا يجهل ; فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة والذكر والخشية والتوكل . وهذا متفق عليه بين الناس كلهم ; بخلاف القرب [ ص: 134 ] الذي قبله ; فإن هذا ينكره الجهمي الذي يقول : ليس فوق السموات رب يعبد ولا إله يصلى له ويسجد وهذا كفر وفند .
و " الأول " : ينكره الكلابية ومن يقول : لا تقوم الأمور الاختيارية به ومن أتباع الأشعري من أصحاب أحمد وغيره من يجعل الرضا والغضب والفرح والمحبة : هي الإرادة وتارة يجعلونها صفات أخر قديمة غير الإرادة .
وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن . له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم ; ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمته الجنة ; فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة ; بل يدخلون الجنة وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم .
[ ص: 135 ] وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعبد الله به وأتي آخر بأكثر من ذلك عجز عنه الأول لم يحمل ما لا يطيق وإن يحصل له بذلك فتنة : لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة .
فهذا " أصل عظيم " في تعليم الناس ومخاطبتهم والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها ; كالقرآن والحديث المشهور وهم مختلفون في معنى ذلك . والله تعالى أعلم .