فقال أحدهما : لا يجب على أحد معرفة هذا ولا البحث عنه ; بل يكره له كما قال الإمام مالك للسائل : وما أراك إلا رجل سوء . وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن الله تعالى واحد في ملكه وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه ; بل ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي .
أفتونا وابسطوا القول بسطا شافيا يزيل الشبهات في هذا مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى .
[ ص: 154 ] فأجاب : - الحمد لله رب العالمين . يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة وتفصيلا عند العلم بالتفصيل ; فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئا ; فإن كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة ; كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة .
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصوم من الكذب فيها . والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين ; وإنما [ ص: 156 ] كمل بما بلغه ; إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=595823تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } .
فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل كما قالnindex.php?page=showalam&ids=12067أبو عبد الرحمن السلمي : لقد { حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن nindex.php?page=showalam&ids=7كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا } .
وقد قام nindex.php?page=showalam&ids=12عبد الله بن عمر - وهو من أصاغر الصحابة - في تعلم البقرة ثماني سنين وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة . وهذا معلوم من وجوه : - [ ص: 157 ] ( أحدها أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن - المنزل عليهم - لفظا ومعنى ; بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد فإنه قد علم أنه من قرأ كتابا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك ; فإنه لا بد أن يكون راغبا في فهمه وتصور معانيه فكيف بمن قرءوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم الذي به هداهم الله وبه عرفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال والرشاد والغي .
فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات ; بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثا فإنه يرغب في فهمه ; فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه ; بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذا اللفظ إنما يراد للمعنى .
فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره : علم أن معانيه مما يمكن [ ص: 158 ] الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها فكيف لا يكون ذلك ممكنا للمؤمنين ; وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم .
[ ص: 159 ] وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفهموا وقالوا : ماذا قال آنفا ؟ أي الساعة وهذا كلام من لم يفقه قوله فقال تعالى : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم } .
فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه .
( الوجه السادس أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقف عند كل آية منه وأسأله عنها .
ولهذا قال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به
وكان ابن مسعود يقول : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله . والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها .
فإن قال قائل : قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافا كثيرا ; ولو كان ذلك معلوما عندهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا فيه .
فإذا قيل : الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى وإن كان كل اسم يدل على نعت لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر .
ومثال " هذا التفسير " كلام العلماء في تفسير { الصراط المستقيم } فهذا يقول : هو الإسلام وهذا يقول هو القرآن أي اتباع القرآن وهذا يقول : السنة والجماعة وهذا يقول : طريق العبودية وهذا يقول : طاعة الله ورسوله .
ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها ويسمى بهذه الأسماء كلها ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط وينتفع بمعرفة ذلك النعت .
[ ص: 161 ] ( الوجه الثاني أن يذكر كل منهم من تفسير " الاسم " بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب ; لا على سبيل الحصر والإحاطة كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ " الخبز " فأرى رغيفا وقيل هذا هو فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه ; لا إلى ذلك الرغيف خاصة .
فالقول الجامع أن " الظالم لنفسه " هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور و " المقتصد " : القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات و " السابق بالخيرات " : بمنزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق .
ثم إن كلا منهم يذكر نوعا من هذا . فإذا قال القائل : " الظالم " المؤخر للصلاة عن وقتها و " المقتصد " المصلي لها في وقتها و " السابق " المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل .
وقال آخر : " الظالم لنفسه " هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله و " المقتصد " القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة و " السابق " الفاعل المستحب بعد الواجب كما [ ص: 162 ] فعل ( الصديق الأكبر حين جاء بماله كله ; ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئا .
وقال آخر : " الظالم لنفسه " الذي يصوم عن الطعام لا عن الآثام و " المقتصد " الذي يصوم عن الطعام والآثام و " السابق " الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى - وأمثال ذلك - لم تكن هذه الأقوال متنافية بل كل ذكر نوعا مما تناولته الآية .
( الوجه الثالث : أن يذكر أحدهم لنزول الآية " سببا " ويذكر الآخر " سببا " آخر - لا ينافي الأول - ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعا أو نزولها مرتين : مرة لهذا ومرة لهذا .
وأما ما صح عن السلف أنهم : اختلفوا فيه " اختلاف تناقض " فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة - كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق ونحو ذلك - لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجملها منقولة عنه بالتواتر .
وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة ; وأمر أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن ( من آيات الله والحكمة ) . [ ص: 163 ] وقد قال غير واحد من السلف : إن " الحكمة " هي السنة ; وقد قال صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=1684ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه } .
فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه ; سواء قيل إنه في القرآن ; ولم نفهمه نحن أو قيل ليس في القرآن ; كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان ; فعلينا أن نتبعهم فيه ; سواء قيل إنه كان منصوصا في السنة ولم يبلغنا ذلك أو قيل إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة .
وأما الأحاديث والآثار عن " الصحابة والتابعين " فلا يحصيها إلا الله تعالى .
فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه على خلقه هو الحق أو الحق نقيضه ; إذ الحق لا يخرج عن النقيضين ; وإما أن يكون نفسه فوق الخلق ; أو لا يكون فوق الخلق - كما تقول الجهمية - .
ثم تارة يقولون : لا فوقهم ولا فيهم ولا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا محايث وتارة يقولون : هو بذاته في كل مكان وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه .
فإما أن يكون الحق إثبات ذلك ; أو نفيه فإن كان نفي ذلك هو الحق فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط - لا نصا ولا ظاهرا - ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ; لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به .
وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء : فأكثر من أن يحصى أو يحصر [ ص: 167 ] فإن كان الحق هو النفي - دون الإثبات - والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلا : لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب ; بل نطقوا بما يدل - إما نصا وإما ظاهرا - على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب .
فإن القائل إذا قال : هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها أو خلاف ما دلت عليه أو أنه لم يرد إثبات علو الله نفسه على خلقه ; وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك - كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
فيقال له : فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق ( به باطنا وظاهرا ; بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه ; فإن غاية ما يقدر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة والباطن المخالف للظاهر . ومعلوم باتفاق العقلاء : أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي ; فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه كان [ ص: 168 ] عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد ; لا سيما إذا كان باطلا لا يجوز اعتقاده في الله فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفا عليهم ; ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة : هو اعتقاد باطل ؟ .
فإذا لم يكن في الكتاب ولا السنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلا ; بل هم دائما لا يتكلمون إلا بالإثبات امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه ; وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه وهذا كلام مبين ; لا مخلص لأحد عنه ; لكن للجهمية المتكلمة هنا كلام وللجهمية المتفلسفة كلام .
أما " المتفلسفة والقرامطة " فيقولون ; إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون وربما يقولون إنهم كذبوا لأجل مصلحة العامة فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات وإن كان في نفس الأمر باطلا .
وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة والكفر الواضح : قول متناقض في نفسه فإنه يقال : لو كان الأمر كما تقولون والرسل من جنس رؤسائكم ; [ ص: 169 ] لكان خواص الرسل يطلعون على ذلك ; ولكانوا يطلعون خواصهم على هذا الأمر ; فكأن يكون النفي مذهب خاصة الأمة وأكملها عقلا وعلما ومعرفة والأمر بالعكس ; فإن من تأمل كلام " السلف والأئمة " وجد أعلم الأمة - عند الأمة - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ بن جبل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب nindex.php?page=showalam&ids=4وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأمثالهم ; هم أعظم الخلق إثباتا .
وكذلك أفضل التابعين : مثل سعيد بن المسيب وأمثاله والحسن البصري وأمثاله nindex.php?page=showalam&ids=16600وعلي بن الحسين وأمثاله وأصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس وهم من أجل التابعين .
بل النقول عن هؤلاء في الإثبات يجبن عن إثباته كثير من الناس وعلى ذلك تأول nindex.php?page=showalam&ids=17327يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري ما يروى : { أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله } تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات ; لأن ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين والتابعين لهم بإحسان بخلاف النفي فإنه لا يوجد عنهم ولا يمكن حمله عليه .
وقد جمع علماء الحديث من المنقول عن السلف في الإثبات ما لا يحصي [ ص: 170 ] عدده إلا رب السموات ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد إلا أن يكون من الأحاديث المختلفة التي ينقلها من هو من أبعد الناس عن معرفة كلامهم .
ومن هؤلاء من يتمسك " بمجملات " سمعها : بعضها كذب وبعضها صدق مثل ما ينقلونه عن عمر أنه قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما } . فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر ; وبتقدير صدقه فهو مجمل . فإذا قال أهل الإثبات كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل عنهما كان أولى من قول النفاة إنهما يتكلمان بالنفي .
وقد جاء مفسرا : أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن ولو قدر أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي ; بل الثابت المحفوظ من أحاديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة كحديث " إتيانه يوم القيامة " وحديث " النزول " و " الضحك " وأمثال ذلك كلها على الإثبات ; ولم ينقل عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة حرف واحد من جنس قول النفاة .
وأما " الجهمية المتكلمة " فيقولون : إن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب هو العقل ; فاكتفى بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة . [ ص: 171 ] فيقال لهم " أولا " : فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال ; وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم : كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال ولم ينصب لهم أسباب الهدى وأحالهم في الهدى على نفوسهم فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم ; بل ضرتهم .
ويقال لهم " ثانيا " : فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة ; مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو ذلك - من الأمور التي تعلم بالعقل - أعظم مما يعلم نفي الجهمية وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق ؟ وكلامه لم يدل عليه ; بل دل على نقيضه وضده ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول . و " المراتب ثلاث " : إما أن يتكلم بالهدى أو بالضلال أو يسكت عنهما .
ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم يسكت عنه ; بل بينه وكان ما جاء به السمع موافقا للعقل ; فكان الواجب فيما ينفيه العقل أن يتكلم فيه بالنفي ; كما فعل فيما يثبته العقل وإذا لم يفعل ذلك كان السكوت عنه أسلم للأمة .
أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات وأراد منهم أن لا يعتقدوا إلا النفي ; لكون مجرد عقولهم تعرفهم به فإضافة هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أبواب الزندقة والنفاق .
( الوجه الثاني ) في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات وعلو الله على السموات أن يقال : من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين وأتم النعمة ; وأن الله أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء ; وأن معرفة ما يستحقه الله وما ينزه عنه هو من أجل أمور الدين وأعظم أصوله ; وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء .
فكيف يجوز أن يكون هذا الباب لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون في هذا الباب
وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على الطريقة البيضاء وهم لا يدرون بماذا يعرفون ربهم : أبما تقوله النفاة أو بأقوال أهل الإثبات
( الوجه الثالث ) أن يقال : كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة : لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه ولا يشتاقون إلى معرفته ولا تطلب قلوبهم الحق وهم ليلا ونهارا يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعا وخيفة ورغبا ورهبا والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم بهذا ومعرفة الحق فيه وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول [ ص: 175 ] المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضا .
ثم إنهم لما سألوه عن ( الرؤية ) قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12367إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر } فشبه الرؤية بالرؤية ; لا المرئي بالمرئي . والنفاة لا يقولون يرى كما ترى الشمس والقمر ; بل قولهم الحقيقي أنه لا يرى بحال ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم : فسر الرؤية بمزيد علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر . والمقصود هنا : أنهم لا بد أن يسألوه عن ربهم الذي يعبدونه وإذا سألوه فلا بد أن يجيبهم . ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله الجهمية النفاة لم ينقل عن أحد من أهل التبليغ عنه وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول أهل الإثبات . ( الوجه الرابع أن يقال : إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحدا منهما . فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول النفاة : وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ; وأنه ليس فوق [ ص: 176 ] السموات رب ولا على العرش إله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله وإنما عرج به إلى السموات فقط لا إلى الله وأن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته وأن الله لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء وأمثال ذلك . وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان ; وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائص ومقصدهم بها أنه ليس فوق السموات رب ; ولا على العرش إله يعبد ولا عرج بالرسول إلى الله . و ( المقصود : أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي ; فالصحابة والتابعون أفضل منا فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتقده وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا وهو إما واجب علينا أو مستحب لنا ; فلا بد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا ويندبنا إلى ما هو مستحب لنا ولا بد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات لمحبوب الله ومرضيه وما يقرب إليه ; لا سيما مع قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } لا سيما والجهمية تجعل هذا أصل الدين وهو عندهم " التوحيد " الذي لا يخالفه إلا شقي فكيف لا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد ؟ وكيف لا يكون " التوحيد " معروفا عند الصحابة والتابعين ؟ . والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب [ ص: 177 ] النفاة " التوحيد " وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين ; إذ عندهم مذهب النفاة هو " التوحيد " . وإذا كان كذلك : كان من المعلوم أنه لا بد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة . فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب ; بل علم أنه ليس من " التوحيد " الذي شرعه الله تعالى لعباده . وإن كان يحب منا مذهب الإثبات ; وهو الذي أمرنا به ; فلا بد أيضا أن يبين ذلك لنا .
ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات " العلو والصفات " أعظم مما فيهما من إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم ; وخبيث المطاعم ; ونحو ذلك من " الشرائع " . فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملا والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغا مبينا ; والتوحيد عن السلف مشهورا معروفا . والكتاب والسنة يصدق بعضه بعضا ; والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق . والقرآن كله حق ليس فيه إضلال ولا دل على كفر ومحال ; بل هو الشفاء والهدى والنور . وهذه كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة ; فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود . [ ص: 178 ] وإن كان الذي يحبه الله منا أن لا نثبت ولا ننفي ; بل نبقى في الجهل البسيط وفي ظلمات بعضها فوق بعض لا نعرف الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا الصدق من الكذب ; بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين الحيارى { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } لا مصدقين ولا مكذبين : لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات وعدم العلم بالحق من الباطل ويحب منا الحيرة والشك . ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال ; وإنما يحب الدين والعلم واليقين . وقد ذم " الحيرة " بقوله تعالى : { قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين } { وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون } . وقد أمرنا الله تعالى أن نقول : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها { nindex.php?page=hadith&LINKID=595833أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 179 ] كان إذا قام من الليل يصلي يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ; فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون . اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم } . فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف ؟ وقد قال الله تعالى له : { وقل رب زدني علما } . وما يذكره بعض الناس عنه أنه قال : { زدني فيك تحيرا } كذب باتفاق أهل العلم بحديثه صلى الله عليه وسلم بل هذا سؤال من هو حائر وقد سأل المزيد من الحيرة ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا كان حائرا ; بل يسأل الهدى والعلم ; فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلالة ؟ . وإنما ينقل مثل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدى بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه وقول هؤلاء الواقفة الذين لا يثبتون ولا ينفون وينكرون الجزم بأحد القولين : يلزم عليه أمور : - ( أحدها أن من قال هذا : فعليه أن ينكر على النفاة ; فإنهم ابتدعوا ألفاظا ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة . وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص : فليس له الإنكار عليهم وهؤلاء [ ص: 180 ] الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة وعادوا أهل السنة . ( الثاني أن يقال : عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحبه الله ورسوله فهذا القول باطل . ( الثالث أن يقال : الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين . غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت . فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم الجازم المستبصر المتبع للرسول العالم بالمنقول والمعقول . ( الرابع أن يقال : السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات وأفصحوا به وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان وكلام الأئمة المشاهير : مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=15743وحماد بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة nindex.php?page=showalam&ids=16349وعبد الرحمن بن مهدي nindex.php?page=showalam&ids=17277ووكيع بن الجراح والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد : موجود كثير لا يحصيه أحد . وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات فإن السائل قال له : يا nindex.php?page=showalam&ids=12251أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال مالك : الاستواء [ ص: 181 ] معلوم والكيف مجهول وفي لفظ : استواؤه معلوم - أو معقول - والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . فقد أخبر رضي الله عنه بأن نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة وهذا بعينه قول أهل الإثبات . وأما " النفاة " فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته ; بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أن الاستواء مجهول : غير معلوم وإذا كان الاستواء مجهولا لم يحتج أن يقال : الكيف مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منتفيا فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال : هي مجهولة أو معلومة . وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء وأنه معلوم وأن له كيفية ; لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن . ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا ونحن لا نعلم كيفية استوائه وليس كل ما كان معلوما وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا يبين ذلك أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال : الله في السماء وعلمه في كل مكان حتى ذكر ذلك مكي - خطيب قرطبة - في " كتاب التفسير " الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمرو الطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر nindex.php?page=showalam&ids=12502وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ونقله أيضا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم : مثل nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وابنه عبد الله والأثرم والخلال والآجري وابن بطة وطوائف [ ص: 182 ] غير هؤلاء من المصنفين في السنة ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات . والقول الذي قاله مالك : قاله قبله ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخه - كما رواه عنه سفيان بن عيينة . وقال nindex.php?page=showalam&ids=15136عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون كلاما طويلا يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة قد ذكرناه في غير هذا الموضع .
وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور ; حتى علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه nindex.php?page=showalam&ids=12502وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السلف ولم يكن من أئمة المالكية من خالف nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد في هذا .
وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين ; لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد . ولم يرد على " nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد " في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخالف للكتاب والسنة ; ولكن زعم من خالف nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد وأمثاله أن ما قاله مخالف للعقل .
وقالوا : إن nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد لم يكن يحسن فن الكلام الذي يعرف فيه ما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز .
[ ص: 183 ] والذين أنكروا على nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية - كأبي المعالي وأتباعه - وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شاركوا فيها المعتزلة ونحوهم من الجهمية فالجهمية - من المعتزلة وغيرهم - هم أصل هذا الإنكار .
وقال أبو مطيع البلخي في كتاب " الفقه الأكبر " المشهور : سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض . قال : قد كفر ; لأن الله عز وجل يقول : { الرحمن على العرش استوى } وعرشه فوق سبع سمواته فقلت إنه يقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض ; فقال إذا أنكر أنه في السماء كفر ; لأنه تعالى في أعلى عليين ; وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل .
وقال عبد الله بن نافع كان مالك بن أنس يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان . وقال معدان : سألت سفيان الثوري عن قوله تعالى { وهو معكم أين ما كنتم } قال علمه . وقال nindex.php?page=showalam&ids=15743حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه رواه ابن أبي حاتم والبخاري [ ص: 184 ] وعبد الله بن أحمد وغيرهم : إنما يدور كلام الجهمية على أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال nindex.php?page=showalam&ids=16599علي بن الحسن بن شقيق قلت لعبد الله بن المبارك : بماذا نعرف ربنا ؟ قال ; بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه . قلت بحد ؟ قال : بحد لا يعلمه غيره وهذا مشهور عن ابن المبارك ثابت عنه من غير وجه ; وهو أيضا صحيح ثابت عن nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغير واحد من الأئمة .
وقال رجل لعبد الله بن المبارك : يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله من كثرة ما أدعو على الجهمية . قال : لا تخف فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء .
وقال جرير بن عبد الحميد ; كلام الجهمية أوله شهد وآخره سم وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله رواه ابن أبي حاتم . ورواه هو وغيره بأسانيد ثابتة عن nindex.php?page=showalam&ids=16349عبد الرحمن بن مهدي قال : إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله عز وجل كلم موسى بن عمران وأن يكون على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم .
وقال يزيد بن هارون : من زعم أن الله على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي . وقال سعيد بن عامر الضبعي - وذكر عنده الجهمية فقال - هم أشر قولا من اليهود والنصارى قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وقالوا هم ليس عليه شيء .
[ ص: 185 ] وقال عباد بن العوام الواسطي : كلمت بشرا المريسي وأصحابه فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا . وهذا كثير في كلامهم .
وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس " مقالة أهل السنة وأهل الحديث " كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في " اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين " فذكر فيه أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمرجئة وغيرهم . ثم قال : ذكر " مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث " وجملة قولهم : الإقرار بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء من عند الله وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا - إلى أن قال - وأن الله على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى { لما خلقت بيدي } وأقروا أن لله علما كما قال : { أنزله بعلمه } { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وأثبتوا السمع والبصر ; ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وقالوا : إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وإن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } إلى أن قال : ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق ; ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله [ ص: 186 ] صلى الله عليه وسلم مثل : { nindex.php?page=hadith&LINKID=595835إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول : هل من مستغفر فأغفر له ؟ } كما جاء في الحديث . ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وذكر أشياء كثيرة إلى أن قال : فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب . قال الأشعري أيضا في " مسألة الاستواء " قال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى : { لما خلقت بيدي } . وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث . قال : وقالت المعتزلة استوى على عرشه بمعنى استولى . وقال الأشعري أيضا في كتابه " الإبانة في أصول الديانة " في ( باب الاستواء إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل : نقول له إن الله مستو على عرشه كما قال : { الرحمن على العرش استوى } وقال : { إليه يصعد الكلم الطيب } وقال : { بل رفعه الله إليه } . وقال حكاية عن فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } كذب فرعون موسى في قوله : [ ص: 187 ] إن الله فوق السموات . وقال الله تعالى : { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } فالسموات فوقها العرش وكل ما علا فهو سماء وليس إذا قال : { أأمنتم من في السماء } يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أنه ذكر السموات فقال : { وجعل القمر فيهن نورا } ولم يرد أنه يملأ السموات جميعا ؟ ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء ; لأن الله مستو على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش . وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : أن معنى استوى استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ; لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش والأخلية فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال : هو مستو على الأشياء كلها ولما لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال : إن الله مستو على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية بطل أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها . وقد نقل هذا عن الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي جمعه في " تبيين كذب المفتري فيما ينسب [ ص: 188 ] إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري " وذكر اعتقاده الذي ذكره في أول " الإبانة " وقوله فيه : فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي به نقول وديانتنا التي ندين ( بها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون ولما خالف قوله مجانبون ; لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح المنهاج به وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين . " وجملة قولنا " : إنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ما تقدم وغيره من جمل كثيرة أوردت في غير هذا الموضع وقال أبو بكر الآجري في " كتاب الشريعة " الذي يذهب إليه أهل العلم : أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل شيء قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع إليه أفعال العباد . فإن قال قائل : أي شيء معنى قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم } الآية قيل له علمه والله على عرشه وعلمه محيط [ ص: 189 ] بهم ; كذا فسره أهل العلم . والآية يدل أولها وآخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين . والقول الذي قاله الشيخ " محمد بن أبي زيد " وأنه فوق عرشه المجيد بذاته وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد . ومراده أن الله هو المجيد بذاته وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال : الرحمن بذاته والرحيم بذاته والعزيز بذاته . وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد في خطبة " الرسالة " أيضا على العرش استوى وعلى الملك احتوى ففرق بين الاستواء والاستيلاء على قاعدة الأئمة المتبوعين ومع هذا فقد صرح nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد في " المختصر " بأن الله في سمائه دون أرضه هذا لفظه والذي قاله nindex.php?page=showalam&ids=12502ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة من جميع الطوائف . وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه " الوصول إلى معرفة الأصول " : أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه . وكذلك ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري ونحوه ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة . وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده . [ ص: 190 ] وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب " الإبانة " له . قال : وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة nindex.php?page=showalam&ids=15743وحماد بن زيد وابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=14919وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق : متفقون على أن الله فوق العرش بذاته ; وأن علمه بكل مكان وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر الجيلي ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12181الحافظ أبو نعيم الأصبهاني - صاحب " حلية الأولياء " وغير ذلك من المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه : - طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة . قال : ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول ; لم يزل عالما بعلم بصيرا ببصر سميعا بسمع متكلما بكلام وأحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله . وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءا ومتلوا ومحفوظا ومسموعا ومكتوبا وملفوظا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة واللفظية من الجهمية وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وأن الجهمي عندهم كافر . وذكر أشياء إلى أن قال : [ ص: 191 ] وأن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في " العرش واستواء الله عليه " يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه ; لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه . وذكر سائر اعتقاد السلف وإجماعهم على ذلك . وقال Multitarajem.php?tid=17323,17324يحيى بن عثمان في " رسالته " : لا نقول كما قالت الجهمية إنه بداخل الأمكنة وممازج كل شيء ولا نعلم أين هو ; بل نقول هو بذاته على عرشه وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله : { وهو معكم أين ما كنتم } . وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد " شيخ الصوفية : في هذا العصر أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين ; فذكر أشياء من الوصية إلى أن قال فيها : وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تأويل والاستواء معلوم والكيف مجهول ; وإنه مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة وإنه عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل ومن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال .
[ ص: 192 ] وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب " الرسالة في السنة " له : ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق به كتابه وعلماء الأمة وأعيان سلف الأمة ; لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه وعرشه فوق سمواته .
وقال أبو عمر بن عبد البر في " شرح الموطأ " لما تكلم على حديث النزول قال : هذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته وفيه دليل أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات ; كما قالت الجماعة ; وهو من حجتهم على المعتزلة قال : وهذا أشهر عند الخاصة والعامة وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته ; لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ; ولا أنكره عليهم مسلم . وقال أبو عمر أيضا : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } هو على العرش وعلمه في كل مكان ; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله . فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف ; إذ لم ينقل عنهم غير ذلك ; إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ; فنسأل الله العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ; بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين والحمد لله وحده .