[ ص: 358 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر قدام القاضي . فقال الزوج لوالد الزوجة : إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق . فقال والدها أنا أبرأتك . فحضر الزوج ووالد الزوجة قدام بعض الفقهاء فأبرأه والدها بغير حضورها وبغير إذنها : فهل يقع الطلاق أم لا ؟
فأجاب : الحمد لله . أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم : أنه ليس للأب أن يخالع على شيء من مال ابنته سواء كانت محجورا عليها أو لم تكن لأن ذلك تبرع بمالها فلا يملكه كما لا يملك إسقاط سائر ديونها . ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيبا لكونه يلي مالها وروي عنه : أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا ; لكونه يجبرها على النكاح .
وروي عنه : يخالع عن ابنته مطلقا كما يجوز له أن يزوجها بدون [ ص: 359 ] مهر المثل للمصلحة وقد صرح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا : إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ; وخطأه بعضهم ; لأنه إنما يملك الإبراء بعد الطلاق ; لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أولى ; ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها من الزوج بشيء من ماله ; وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج . فإذا جاز له أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر إلا إسقاط نصف صداقها .
ومذهب مالك يخرج على أصول أحمد من وجوه . منها أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين ; كما ذهب إليه طوائف من السلف . ومالك يجوز الخلع دون الطلاق ; لأن في الخلع معاوضة . وأحمد يقول : له التطليق عليه لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها وكذلك لا فرق في إسقاط حقوقه بين المال وغير المال . " وأيضا " فإنه يجوز في إحدى الروايتين للحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها ; ويطلق على الزوج بدون إذنه : كمذهب [ ص: 360 ] مالك وغيره . وكذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح وله أن يسقط نصف الصداق . ومذهبه أن للأب أن يتملك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق : جاز له ذلك . وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها وذلك يملكه بإجماع المسلمين .
ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولى عليه للمصلحة . فقد يقال : الأظهر أن المرأة إن كانت تحت حجر الأب له أن يخالع معاوضة وافتداء لنفسها من الزوج فيملكه الأب كما يملك غيره من المعاوضات وكما يملك افتداءها من الأسر ; وليس له أن يفعل ذلك إلا إذا كان مصلحة لها . وقد يقال : قد لا يكون مصلحتها في الطلاق ; ولكن الزوج يملك أن يطلقها وهو لا يقدر على منعه ; فإذا بذل له العوض من غيرها لم يمكنها منعه من البذل .
فأما إسقاط مهرها وحقها الذي تستحقه بالنكاح فقد يكون عليها في ذلك ضرر . والأب قد يكون غرضه باختلاعها حظه لا لمصلحتها وهو لا يملك إسقاط حقها بمجرد حظه بالاتفاق . فعلى قول من يصحح الإبراء يقع الإبراء والطلاق . وعلى قول من لا يجوز إبراءه إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع ; وكان على الأب للزوج [ ص: 361 ] مثل الصداق عند أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في القديم . وعنده في الجديد : إنما عليه مهر المثل .
وأما إن لم يضمنه إن علق الطلاق بالإبراء . فقال له : إن أبرأتني فهي طالق . فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه يبرأ ويرجع على الأب بقدر الصداق ; لأنه غره ; وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة وفي الأخرى لا يقع شيء . وهو قول الشافعي .
وهو قول في مذهب أحمد ; لأنه لم يبرأ في نفس الأمر . والأولون قالوا : وجد الإبراء . وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء . وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه على الإبراء فإنه يقع ; لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق ; لأنه غره . وعند الشافعي لا يضمن له شيئا ; لأنه لم يلزم شيئا . والله أعلم .